صفحة جزء
( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون )

قوله تعالى :( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) .

اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا ، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا ، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم ، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، فقال :( ويحلفون بالله ) أي : المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم( إنهم لمنكم ) أي : على دينكم .

ثم قال تعالى :( وما هم منكم ) أي : ليسوا على دينكم( ولكنهم قوم يفرقون ) القتل ، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق ، وهو كقوله تعالى :( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) [ البقرة : 14 ] . والفرق : الخوف ، ومنه يقال : رجل فروق ، وهو الشديد الخوف ، ومنها أنهم لو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم ، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب ، فقوله :( لو يجدون ملجأ ) . الملجأ : المكان الذي يتحصن فيه ، ومثله اللجأ مقصورا مهموزا ، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ ، لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ، ومثله التجأ وألجأته إلى كذا ، أي : جعلته مضطرا إليه . وقوله :( أو مغارات ) . هي جمع مغارة ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي يستتر . قال أبو عبيد : كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين .

وقوله :( مدخلا ) قال الزجاج : أصله مدتخل ، والتاء بعد الدال تبدل دالا ؛ لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول ، كالمتلج من الولوج . ومعناه : المسلك الذي يستتر بالدخول فيه . قال الكلبي وابن زيد : نفقا كنفق اليربوع . والمعنى : أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه الثلاثة ، مع أنها شر الأمكنة( لولوا إليه ) أي : رجعوا إليه . يقال : ولى بنفسه إذا انصرف ، وولى غيره إذا صرفه . وقوله :( وهم يجمحون ) أي : يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء ، ومن هذا يقال : جمح الفرس ، وهو فرس جموح ، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام ، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن [ ص: 78 ] المسلمين صاروا بهذه الحالة .

واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء ، وهي : الملجأ ، والمغارات ، والمدخل ، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه ، فالملجأ : يحتمل الحصون ، والمغارات : الكهوف في الجبال ، والمدخل : السرب تحت الأرض ، نحو الآبار . قال صاحب الكشاف : قرئ : " مدخلا " من دخل و " مدخلا " من أدخل ، وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم ، وقرأ أبي بن كعب : " متدخلا " ، وقرأ : لوألوا إليه " أي : لالتجأوا ، وقرأ أنس : " يجمزون " ، فسئل عنه فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية