(
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم )
قوله تعالى :(
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) .
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدقات ، بين لهم أن
مصرف الصدقات هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيبا منها ، فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات . وههنا مقامات :
المقام الأول : بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء ، وصرفها إلى المحتاجين من الناس .
والمقام الثاني : بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية .
أما المقام الأول فنقول :
الحكمة في إيجاب الزكاة أمور ، بعضها مصالح عائدة إلى معطي الزكاة ، وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة .
أما القسم الأول فهو أمور : الأول : أن المال محبوب بالطبع ، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ، ولعينها لا لغيرها ؛ لأنه لا يمكن أن يقال : إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر ، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فوجب الانتهاء في الأشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوبا لذاته . والكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته ، فلما كانت القدرة صفة كمال ، وصفة الكمال محبوبة لذاتها ، كانت القدرة محبوبة لذاتها ، والمال سبب لحصول تلك القدرة ، ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال ، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب ، فكان المال محبوبا ؛ فهذا هو السبب في كونه محبوبا ، إلا أن الاستغراق في حبه يذهب النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت
[ ص: 81 ] حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ؛ ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدة الميل إلى المال ، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيها لها على أن
سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال ، وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى ، فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين ؛ لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب ، فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة ، وهو المراد من قوله :(
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) [ التوبة : 103 ] . أي : تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا .
والوجه الثاني : وهو أن
كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة ، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة ، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببا لحصول هذه اللذات المتزايدة ، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور ؛ لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة ، وهو يوجب ازدياد اللذة ، وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ، ولما صارت المسألة مسألة الدور ، لم يظهر لها مقطع ولا آخر ، فأثبت الشرع لها مقطعا آخر وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ؛ ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ، ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه .
والوجه الثالث : أن
كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب ، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة ، والقدرة محبوبة لذاتها ، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه ، فالإنسان يصير غرقا في طلب المال ، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع ، وهذا هو المراد بالطغيان ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى :(
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ] . فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ، ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن .
والوجه الرابع : أن النفس الناطقة لها قوتان ؛ نظرية وعملية ، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله ،
والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله ، فأوجب الله الزكاة ؛ ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال ، وهو اتصافه بكونه محسنا إلى الخلق ، ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ، دافعا للآفات عنهم ، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام :
" تخلقوا بأخلاق الله " .
والوجه الخامس : أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام :
" جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها " . فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله ، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر ، أمدوه بالدعاء والهمة ، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة ، فصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :(
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [ الرعد : 17 ] . وبقوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012826 " حصنوا أموالكم بالزكاة " .
والوجه السادس : أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء ؛ فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه ، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره ، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ؛ ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق ، والاستغناء بالشيء صفة الخلق ، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده
[ ص: 82 ] أموالا كثيرة فقد رزقه نصيبا وافرا من باب الاستغناء بالشيء ، فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء ، إلى المقام الذي هو أعلى منه ، وأشرف منه ، وهو الاستغناء عن الشيء .
والوجه السابع : أن
المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه ، فهو غاد ورائح ، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق ، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق ، فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله ، فإنه يوجب المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، وسمعت واحدا يقول : الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر ، فقلت : بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة .
والوجه الثامن : وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء ، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين ، فكان البذل أولى .
والوجه التاسع : أن
إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى ، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله ، وذلك منتهى كمالات الإنسانية .
والوجه العاشر : أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء : الروح والبدن والمال . فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقا في هذا التكليف ، ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقا بالذكر والقراءة ، والبدن مستغرقا في تلك الأعمال ، بقي المال ؛ فلو لم يصر المال مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه ، وذلك جهل ؛ لأن مراتب السعادات ثلاث :
أولاها : السعادات الروحانية .
وثانيها : السعادات البدنية ، وهي المرتبة الوسطى .
وثالثها : السعادات الخارجية ، وهي المال والجاه . فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية ، فإذا صار الروح مبذولا في مقام العبودية ، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي ، وذلك جهل . فثبت أنه يجب على العاقل أيضا بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى .
والوجه الحادي عشر : أن العلماء قالوا : شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ،
والزكاة شكر النعمة ، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب .
والوجه الثاني عشر : أن
إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين ، وزوال الحقد والحسد عنهم ، وكل ذلك من المهمات ، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة ، فأما
المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة ، الأول : أن الله تعالى خلق الأموال ، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها ؛ فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل ، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد ، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه ؛ لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة ، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيا في تحصيل ذلك المال ، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره ، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة ، وحضر إنسان آخر محتاج ، فههنا حصل سببان ، كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال . أما في حق المالك ، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله ، وأيضا شدة تعلق قلبه به ، فإن ذلك التعلق أيضا نوع من أنواع الحاجة . وأما في حق الفقير ، فاحتياجه إلى ذلك المال
[ ص: 83 ] يوجب تعلقه به ، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان ، فيقال : حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به ، وحصل للفقير حق الاحتياج ، فرجحنا جانب المالك ، وأبقينا عليه الكثير ، وصرفنا إلى الفقير يسيرا منه توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان .
الثاني : أن
المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته يبقى معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير ؛ حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية .
الثالث : أن الفقراء عيال الله ؛ لقوله تعالى :(
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] . والأغنياء خزان الله ؛ لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ، ولا يملك ملء بطنه طعاما ، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوا صفوا .
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه : اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي .
الوجه الرابع : أن يقال : المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير .
الوجه الخامس : أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزءا قليلا ، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان . أما الفقير ليس له شيء أصلا ، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلا ، وليس له ما يجبره ، فكان ذلك أولى .
الوجه السادس : أن
الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة ؛ كالسرقة وغيرها ، فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة ، فوجب القول بوجوبها .
الوجه السابع : قال عليه الصلاة والسلام :
" الإيمان نصفان ؛ نصف صبر ونصف شكر " والمال محبوب بالطبع ، فوجدانه يوجب الشكر ، وفقدانه يوجب الصبر ، وكأنه قيل : أيها الغني ، أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين ، فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار ؛ فتصير بسببه من الصابرين ، وأيها الفقير ، ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ، ولكنني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال ؛ حتى إذا حل ذلك المقدار في ملكك شكرتني ، فصرت من الشاكرين ، فكان
إيجاب الزكاة سببا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معا .
الوجه الثامن : كأنه سبحانه يقول للفقير : إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ، ولكني جعلت نفسي مديونا من قبلك ، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالا كثيرة لكني كلفته أن يعدو خلفك ، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه ، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار .
[ ص: 84 ] فإن قال الغني : قد أنعمت عليك بهذا الدينار ، فقل أيها الفقير : بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار ، وفي الآخرة من عذاب النار .
فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة ، بعضها يقينية وبعضها إقناعية ، والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله . والله أعلم .