ثم قال :(
ومنهم الذين يؤذون النبي ) ، ثم قال :(
ومنهم من عاهد الله ) [ التوبة : 75 ] . إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب ، وفي كل ذلك
دلائل على كونه نبيا حقا من عند الله .
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي ، ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي : إنه أذن ، وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع ؛ فلهذا السبب سموه بأنه أذن ، كما أن الجاسوس يسمى بالعين ، يقال : جعل فلان علينا عينا ، أي : جاسوسا متفحصا عن الأمور ، فكذا ههنا .
ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله :(
قل أذن خير لكم ) ، والتقدير : هب أنه أذن ، لكنه خير لكم ، وقوله :(
أذن خير ) مثلما يقال : فلان رجل صدق وشاهد عدل ، ثم بين كونه :(
أذن خير ) بقوله :(
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ) جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام :(
أذن خير ) فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية :
أما الأول : وهو قوله :(
يؤمن بالله ) ؛ فلأن كل من آمن بالله كان خائفا من الله ، والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل .
وأما الثاني : وهو قوله :(
ويؤمن للمؤمنين ) فالمعنى : أنه يسلم للمؤمنين قولهم ، والمعنى : أنهم إذا توافقوا على قول واحد ، سلم لهم ذلك القول ، وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار .
فإن قيل : لم عدى الإيمان إلى الله بالباء ، وإلى المؤمنين باللام ؟
قلنا : لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر ، فعدى بالباء ، والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم ، والتسليم لقولهم ، فيتعدى باللام ، كما في قوله :(
وما أنت بمؤمن لنا ) [ يوسف : 17 ] .(
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) [ يونس : 83 ] . وقوله :(
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) .
[ ص: 94 ] [ الشعراء : 111 ] . وقوله :(
آمنتم له قبل أن آذن لكم ) [ طه : 71 ] .
وأما الثالث : وهو قوله :(
ورحمة للذين آمنوا منكم ) . فهذا أيضا يوجب الخيرية ؛ لأنه يجري أمركم على الظاهر ، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم ، ولا يسعى في هتك أستاركم ، فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه :(
أذن خير ) . ولما بين كونه سببا للخير والرحمة بين أن
كل من آذاه استوجب العذاب الأليم ؛ لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ، ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور ، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى .
المسألة الرابعة : أما
قراءة من قرأ : " أذن خير " بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه :
الوجه الأول : التقدير : قل : أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ، ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن ، وهو قوله :(
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ) والمعنى : أن من كان موصوفا بهذه الصفات ، فكيف يجوز الطعن فيه ، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار ؟
الوجه الثاني : أن يضمر مبتدأ ، والتقدير : هو أذن خير لكم ، أي : هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم ؛ لأنه يقبل معاذيركم ، ويتغافل عن جهالاتكم ، فكيف جعلتم هذه الصفة طعنا في حقه ؟
الوجه الثالث : وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم ، فقال : ( أذن ) وإن كان رفعا بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال ، وتأويله قل هو أذنا خير ، أي : إذا كان أذنا فهو خير لكم ؛ لأنه يقبل معاذيركم ، ونظيره : وهو حافظا خير لكم ، أي : هو حال كونه حافظا لكم إلا أنه لما كان محذوفا وضع الحال مكان المبتدأ ، تقديره : وهو حافظ خير لكم ، وإضمار " هو " في القرآن كثير ، قال تعالى :(
سيقولون ثلاثة ) [ الكهف : 22 ] أي : هم ثلاثة ، وهذا الوجه شديد التكلف ، وإن كان قد استحسنه
الواحدي جدا .
المسألة الخامسة : قرأ
حمزة : " ورحمة " بالجر عطفا على " خير " كأنه قيل : أذن خير ورحمة ، أي : مستمع كلام يكون سببا للخير والرحمة .
فإن قيل : وكل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ؟
قلنا : لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ، كما في قوله تعالى :(
وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] . قال
أبو عبيد : هذه القراءة بعيدة ؛ لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه . قال
أبو علي الفارسي : البعد لا يمنع من صحة العطف ، ألا ترى أن من قرأ : " وقيله يا رب " . إنما يحمله على قوله :(
وعنده علم الساعة ) [ الزخرف : 85 ] . تقديره : وعنده علم الساعة وعلم قيله .
فإن قيل : ما وجه قراءة
ابن عامر : " ورحمة " بالنصب ؟
قلنا : هي علة معللها محذوف ، والتقدير : ورحمة لكم يأذن ، إلا أنه حذف ؛ لأن قوله :(
أذن خير لكم ) يدل عليه .