(
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) .
قوله تعالى :(
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في
سبب نزول الآية أمورا : الأول :
روى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك : ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقال واحد من الصحابة : كذبت ولأنت منافق . ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه . فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق . وكان يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ؟ " ، ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه . الثاني :
قال الحسن وقتادة : لما سار الرسول إلى تبوك [ ص: 98 ] قال المنافقون بينهم : أتراه يظهر على الشأم ويأخذ حصونها وقصورها ؟ هيهات هيهات ! فعند رجوعه دعاهم وقال : أنتم القائلون بكذا وكذا ؟ فقالوا : ما كان ذلك بالجد في قلوبنا ، وإنما كنا نخوض ونلعب . الثالث : روي أن المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم سئلوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم ، فقالوا هذا القول .
الرابع : حكينا عن
أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله :(
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) . أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ، فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم : لم فعلتم ذلك ؟ قالوا : لم نقل ذلك على سبيل الطعن ، بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب .
الخامس : اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات ؛ فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاما فاسدا على سبيل الطعن والاستهزاء ، فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه ؛ بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب ، لا على سبيل الجد ، وذلك قولهم : إنما كنا نخوض ونلعب ، أي : ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب ، وهذا يدل على أن كلمة " إنما " تفيد الحصر ؛ إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين ، أن لا يكونوا مستهزئين ، فحينئذ لا يتم هذا العذر .
والجواب : قال
الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : أنا كنا نخوض ونلعب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسول بقوله : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ؟! " وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
فرق بين قولك : أتستهزئ بالله ؟ وبين قولك : أبالله تستهزئ ؟ فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني : يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول : هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ، ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ، ونظيره قوله تعالى :(
لا فيها غول ) [ الصافات : 47 ] . والمقصود ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنة محلا للغول .
المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله ، ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال ، فلا بد له من تأويل ، وفيه وجوه :
الأول :
المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى .
الثاني : يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله ؛ فإن أسماء الله قد يستهزئ الكافر بها ، كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها ؛ قال تعالى :(
سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] . فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله . وقال :(
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) [ الأعراف : 180 ] . فلا يمتنع أن يقال :(
أبالله ) ويراد : أبذكر الله .
الثالث : لعل المنافقين لما قالوا : كيف يقدر
محمد على أخذ حصون
الشأم وقصورها . قال بعض المسلمين : الله يعينه على ذلك وينصره عليهم ، ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاما مشعرا بالقدح في قدرة الله كما هو عادات الجهال والملحدة ، فكان المراد ذلك .
وأما قوله :(
وآياته ) فالمراد بها القرآن ، وسائر ما يدل على الدين . وقوله :(
ورسوله ) معلوم ، وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء .