ثم قال تعالى :(
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
قرأ عاصم : " إن نعف ونعذب " بالنون وكسر الذال ، وطائفة بالنصب ، والمعنى : أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ، والباقون بالياء وضمها ، وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله ، إن يعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث ، وحكى صاحب الكشاف عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، ثم قال : والوجه التذكير ؛ لأن المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول : سيرت بالدابة ، وأما تأويل قراءته فهو أن
مجاهدا لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل : إن
[ ص: 100 ] ترحم طائفة فأنت كذلك ، وهو غريب ، والجيد القراءة العامة : إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث .
المسألة الثانية : ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك واحد ، فالطائفة الأولى الضاحك ، والثانية الهازئان ، وقال المفسرون : لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه ، وذنب الهازئين أغلظ ، فلا جرم ما عفا الله عنهما ، قال القاضي : هذا بعيد ؛ لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر ، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام ، وأيضا لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر ، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه ، فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى ، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام ، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر ، وذلك يدل على أن
من خاض في عمل باطل ، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل .
المسألة الثالثة : قالوا : ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنسانا واحدا . قال
الزجاج : والطائفة في اللغة : أصلها الجماعة ؛ لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى :(
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) [ النور : 2 ] . وأقله الواحد ، وروى
الفراء بإسناده عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه . وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه :
الأول : أن من اختار مذهبا ونصره فإنه لا يزال يكون ذابا عنه ناصرا له ، فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب ، فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى
مكة على الجمال ، والله تعالى يقول :(
الذين قال لهم الناس ) [ آل عمران : 173 ] . يعني
نعيم بن مسعود .
الثالث : لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفا ، ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ، ثم إنه تعالى علل كونه معذبا للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين .
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر ، فقد اشتركتا في الجرم ، والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين ، وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز ، وأيضا التعذيب حكم حاصل في الحال . وقوله :(
كانوا مجرمين ) يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي ، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز ، بل كان الأولى أن يقال ذلك : بأنهم مجرمون .
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى ، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ ، وأيضا ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل ، فأوجب التعذيب .