المسألة الخامسة : قال
الجبائي : إن
المشبهة تمسكوا في
إثبات رؤية الله تعالى بقوله :(
تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل أنه قال في صفة المنافقين :(
إلى يوم يلقونه ) وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه ، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية . قال : والذي يقويه قوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012862من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " . وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب ، فكذا ههنا . والقاضي استحسن هذا الكلام . وأقول : أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ؟ وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية ، وفي هذا الخبر لدليل منفصل ، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور ، ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل ، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل ، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك ، فإن قال : هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية ، وذلك ممنوع ، فنقول : لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ، ومن رأى شيئا فقد وصل إليه ، فكانت الرؤية لقاء ، كما أن الإدراك هو البلوغ ، قال تعالى :(
قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) [ الشعراء : 61 ] . أي : لملحقون ، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ، ثم نقول : لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية ، بل المقصود أنه تعالى أعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، أي : حكمه وقضاءه ، وهو كقول الرجل : ستلقى عملك غدا ، أي : تجازى عليه ، قال تعالى :(
بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) والمعنى : أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب .
[ ص: 115 ] ثم قال تعالى :(
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ) والسر ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ، ونظيره قوله تعالى :(
وقربناه نجيا ) [ مريم : 52 ] . وقوله :(
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) [ يوسف : 80 ] . وقوله :(
فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى ) [ المجادلة : 9 ] . وقوله :(
إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) [ المجادلة : 12 ] .
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى ، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال : ألم يعلموا أن
الله يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم ، مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر ؟
ثم قال :(
وأن الله علام الغيوب ) والعلام مبالغة في العالم ، والغيب ما كان غائبا عن الخلق . والمراد
أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء ، فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات ، فيجب كونه عالما بما في الضمائر والسرائر ، فكيف يمكن الإخفاء منه ؟ ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول
عيسى عليه السلام :(
إنك أنت علام الغيوب ) [ المائدة : 116 ] . فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز ؛ لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال .