(
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم )
قوله تعالى :(
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم )
واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله :(
عسى الله أن يتوب عليهم ) وما كان ذلك صريحا في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات ، والمقصود
ترغيب من لم يتب في التوبة ، وترغيب كل العصاة في الطاعة . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
أبو مسلم قوله :(
ألم يعلموا ) وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلا أن المقصود منه التقرير في النفس ، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته . أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم .
ثم زاده تأكيدا بقوله :(
هو التواب الرحيم )
[ ص: 147 ]
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرئ ( ألم يعلموا ) بالياء والتاء ، وفيه وجهان :
الأول : أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا ، يعني ( ألم يعلموا ) قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أن
الله يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية .
والثاني : أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة . روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بصحة توبتهم قال : "
الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم " فنزلت هذه الآية .
المسألة الثالثة : قوله :(
هو يقبل التوبة ) فيه فوائد :
الفائدة الأولى : أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم الله . ثم قال عقيبه :(
هو يقبل التوبة ) وفيه تنبيه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة ، وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه ، ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين ، ويمتنع أيضا أن يكون له شهوة إلى الطاعة ، ونفرة عن المعصية حتى يقال : إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام ، بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة ، هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء ، ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة ، فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح ، وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل ، فالمذنب لا يضر إلا نفسه ، والمطيع لا ينفع إلا نفسه . كما قال تعالى :(
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) ( الإسراء : 7 ) فإن كان الإله رحيما حكيما كريما ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته ، فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته . فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق ، وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره ، كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل ، أو لمعارض أو لمباين .
الفائدة الثانية : في هذا التخصيص هو أن
قبول التوبة ليس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى . فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه ، وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيرا كان أو شرا .