المسألة الثانية : دلت الآية على مسائل أصولية .
الحكم الأول
أنها تدل على كونه تعالى رائيا للمرئيات ؛ لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعداة إلى مفعولين هي العلم ، كما تقول رأيت زيدا فقيها ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار ، وذلك يدل على كونه مبصرا للأشياء كما أن قول
إبراهيم - عليه السلام - :(
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) ( مريم : 42 ) يدل على كونه تعالى مبصرا ورائيا للأشياء ، ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال :(
وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل .
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته ، واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا : قد دللنا على أن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد ، والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى
[ ص: 150 ] المفعول الواحد معناها الإبصار . فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار . ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهات والأنظار . وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسكنات . فوجب كونه تعالى رائيا للكل وذلك يدل على أن هذه
الأشياء كلها مرئية لله تعالى ، وأما
الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائيا للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات ، فلما قيل له : إن صح هذا الاستدلال ، فيلزمك كونه تعالى رائيا لأعمال القلوب ، فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله :(
ورسوله والمؤمنون ) وهم إنما يرون أفعال الجوارح ، فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه ، وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك . فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب ، فدخول التخصيص في المعطوف ، لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه ، ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال : رؤية الله تعالى حاصلة في الحال . والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية هو قوله :(
فسيرى الله عملكم ) أمر غير حاصل في الحال ؛ لأن السين تختص بالاستقبال . فثبت أن المراد منه
الجزاء على الأعمال . فقوله :(
فسيرى الله عملكم ) أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم . ولمجيب أن يجيب عنه ، بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله :(
فينبئكم بما كنتم تعملون ) فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار ، وأنه غير جائز .