(
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )
قوله تعالى :(
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : هذا معطوف على الآية الأولى ، والتقدير : لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى
الثلاثة الذين خلفوا ، والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي - عليه الصلاة والسلام - ، كان ذلك دليلا على تعظيمه وإجلاله ، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي - عليه الصلاة والسلام - وتوبة
المهاجرين والأنصار في حكم واحد ، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك .
المسألة الثانية : أن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى :(
وآخرون مرجون لأمر الله ) [ التوبة : 106 ] واختلفوا في
السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين وذكروا وجوها :
أحدها : أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف ، أو حصل الرضا من الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلانا فيقول : بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه .
وثانيها : لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال : خلفهم الرسول .
وثالثها : أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله :(
وآخرون مرجون لأمر الله ) فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى . قال
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة : قول الله تعالى في حقنا :(
وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا ليشير به إلى قوله :(
وآخرون مرجون لأمر الله ) .
[ ص: 173 ]
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرئ ( خلفوا ) أي خلفوا الغازين
بالمدينة ، أي : صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر الصادق ( خالفوا ) وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ( وعلى الثلاثة المخلفين ) .
المسألة الرابعة : هؤلاء الثلاثة هم ؛
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك الشاعر ،
وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ،
ومرارة بن الربيع ، وللناس في هذه القصة قولان :
القول الأول : أنهم ذهبوا خلف الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، قال
الحسن : كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك ، اذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل ، وكان للثاني أهل فقال : يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل ، والثالث : ما كان له مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحقوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى(
وآخرون مرجون لأمر الله ) .
والقول الثاني وهو قول الأكثرين : أنهم ما ذهبوا خلف الرسول - عليه الصلاة والسلام -
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012909قال كعب : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : "ما الذي حبس كعبا " فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت : إن كراعي وزادي كان حاضرا واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت : يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره ، حتى إذا مضى خمسون يوما أنزل الله تعالى :( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ) وأنزل قوله :( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) فعند ذلك خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرته وهو عند nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة فقال : "الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا" فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم ، فانطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلا عليهم ما نزل فيهم . فقال كعب : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : "لا" قلت : فنصفه قال : "لا" قلت : فثلثه قال : "نعم " واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة :
الصفة الأولى : قوله :(
حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) قال المفسرون : معناه : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - صار معرضا عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما ، وقيل : أكثر ، ومعنى ( وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) تقدم تفسيره في هذه السورة .
والصفة الثانية : قوله :(
وضاقت عليهم أنفسهم ) والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء ، ونظر الناس لهم بعين الإهانة .
الصفة الثالثة : قوله :(
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) ويقرب معناه من قوله - عليه الصلاة والسلام - في دعائه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012910أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك " ومن الناس من قال معنى قوله :( وظنوا ) أي علموا كما في قوله :(
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) ( البقرة : 46 ) والدليل عليه أنه تعالى ذكر
[ ص: 174 ] هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء ، ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه . وقال آخرون : وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة ، ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث .