(
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
قوله تعالى : (
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في بيان أن
إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه . وقال بإمكانه عالم من الناس ، وهم جمهور أرباب الملل والأديان . وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه .
الثاني : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين ، وعرضنا عليها أيضا هذه القضية ، لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى .
الثالث : أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة ، أو لا نقول به . فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية ، فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى . وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضا قائم ؛ لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيبا ثانيا ، ويخلق الإنسان الأول مرة أخرى .
والرابع : أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على
إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا .
فالمثال الأول : أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف ، ونرى اليبس مستوليا عليها بسبب شدة الحر في الصيف . ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع ، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة ، كما قال تعالى : (
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) [ فاطر : 9 ] .
وثانيها : قوله تعالى : (
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) [ الحج : 5 ] إلى قوله : (
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى ) [ الحج : 6 ] .
وثالثها : قوله تعالى : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : 21 ]
[ ص: 15 ] والمراد كونه منبها على أمر المعاد .
ورابعها : قوله : (
ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه ) [ عبس 21 - 24 ] وقال عليه السلام : "
إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور " ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه .
المثال الثاني : ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن ، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال ، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن .
وإذا ثبت هذا فنقول : ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضا تكون كله ، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
وننشئكم في ما لا تعلمون ) [ الواقعة : 61 ] يعني : أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أولا ، ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا ، من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه . فوجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة .
المثال الثالث :
أنه تعالى لما كان قادرا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق ، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى ، وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة ، منها في هذه الآية وهو قوله : (
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) .
وثانيها : قوله تعالى في سورة يس : (
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) [ يس : 79 ] .
وثالثها : قوله تعالى : (
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) [ الواقعة : 62 ]
ورابعها : قوله تعالى : (
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) [ ق : 15 ]
وخامسها : قوله تعالى : (
أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ) [ القيامة 36 - 37 ] إلى قوله : (
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) [ القيامة : 40 ] .
وسادسها : قوله تعالى : (
ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) [ الحج : 5 ] إلى قوله : (
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) [ الحج : 6 ، 7 ] فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور ، الأول : أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله : (
إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) [ الحج : 5 ] كأنه تعالى يقول : لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى ، فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة واختلافات متعاقبة ؟
والثاني : أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة .
والثالث : أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة . فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر .
والآية السابعة في هذا الباب قوله تعالى : (
قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ) [ الإسراء : 50 ، 51 ] .
المثال الرابع : أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال : إنه لا يقدر على إعادتها ؟ فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلا ، فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلا كان أولى ، وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) [ يس : 81 ]
[ ص: 16 ]
وثانيها قوله تعالى : (
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ) [ الأحقاف : 33 ] .
وثالثها : (
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) [ النازعات : 27 ] .
المثال الخامس : الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر ، فإن النوم أخو الموت ، واليقظة شبيهة بالحياة بعد الموت . قال تعالى : (
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) [ الأنعام : 60 ] ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث ، فقال : (
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) [ الأنعام : 61 ، 62 ] وقال في آية أخرى (
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) [ الزمر : 42 ] إلى قوله : (
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) [ الرعد : 3 ] والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر .
المثال السادس : أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد ، إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى ؛ لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت ؟ فإن حكم الضدين واحد . قال تعالى مقررا لهذا المعنى : (
نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ) [ الواقعة : 60 ] وأيضا نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته ، فقال : (
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) [ يس : 80 ] فكذا هاهنا ، فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول .