المسألة الرابعة : قوله تعالى : (
إليه مرجعكم جميعا ) فيه أبحاث :
البحث الأول : أن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصا بحيز وجهة ، حتى يصح أن يقال : إليه مرجع الخلق .
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أنا إذا قلنا . النفس جوهر مجرد ، فالسؤال زائل .
الثاني : أن يكون المراد منه : أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه .
الثالث : أن يكون المراد : أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة .
البحث الثاني : ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن
الإنسان عبارة عن النفس لا عن البدن ، ويدل أيضا
[ ص: 25 ] على أن النفس كانت موجودة قبل البدن . أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى : (
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ) فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت ، والنص دال على أنه حي ، فوجب أن تكون حقيقته شيئا مغايرا لهذا البدن الميت ، وأيضا قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار : (
أخرجوا أنفسكم ) [ الأنعام : 93 ] وأما أن النفس كانت موجودة قبل البدن ، فلأن قوله تعالى في هذه الآية : (
إليه مرجعكم ) يدل على ما قلنا ؛ لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ، ونظيره قوله تعالى : (
ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية ) [ الفجر : 27 ، 28 ] وقوله : (
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) [ الأنعام : 62 ] .
البحث الثالث : المرجع بمعنى الرجوع ، و (
جميعا ) نصب على الحال ؛ أي : ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع ، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت ، وإنما المراد منه القيامة .
البحث الرابع : قوله تعالى : (
إليه مرجعكم ) يفيد الحصر ، وأنه
لا رجوع إلا إلى الله تعالى ، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره ، وأما قوله : (
وعد الله حقا ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : (
وعد الله ) منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا ؛ لأن قوله : (
إليه مرجعكم ) معناه الوعد بالرجوع ، فعلى هذا التقدير يكون قوله : (
وعد الله ) مصدرا مؤكدا لقوله : (
إليه مرجعكم ) وقوله : ( حقا ) مصدرا مؤكدا لقوله : (
وعد الله ) فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم .
المسألة الثانية : قرئ ( وعد الله ) على لفظ الفعل . واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود . ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه . أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه : (
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقا للأفلاك والأرضين ، ويدخل فيه أيضا كونه خالقا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان ، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرا على شيء ، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال ، وكان عالما بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه ، فدل هذا
الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته .
المسألة الثانية : اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم ، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا ؟ فقال قوم : إنه تعالى يعدمها ، واحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها ، فوجب أن يعيد الأجسام أيضا ، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال . ونظيره قوله تعالى : (
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده ) [ الأنبياء : 104 ] فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم ، فوجب أن يقال : إنه تعالى يعيدها أيضا من العدم .
المسألة الثالثة : في هذه الآية إضمار ، كأنه قيل : إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ، ثم يميتهم ، ثم يعيدهم ، كما قال في سورة البقرة : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [ البقرة : 28 ] إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة هاهنا ، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية : (
ذلكم الله ربكم )
[ ص: 26 ] (
فاعبدوه ) [ يونس : 3 ] وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الإعادة يدل عليها .
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم (
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) بالكسر وبعضهم بالفتح . قال
الزجاج : من كسر الهمزة من " إن " فعلى الاستئناف ، وفي الفتح وجهان ، الأول : أن يكون التقدير : إليه مرجعكم جميعا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده . والثاني : أن يكون التقدير : وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ، و ( يبدئ ) من أبدأ ، وقرئ : ( حق إنه يبدأ الخلق ) كقولك : حق إن زيدا منطلق .