(
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )
قوله تعالى : (
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )
[ ص: 53 ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن ، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله : (
إنما الغيب لله ) ذكر جوابا آخر وهو المذكور في هذه الآية ، وتقريره من وجهين :
الوجه الأول : أنه تعالى بين في هذه الآية أن
عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف ، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى ، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم ، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين : إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد ، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة .
أما المقام الأول : فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على
أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم ، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء ، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران . فقوله : (
وإذا أذقنا الناس رحمة ) المراد منه تلك الأمطار النافعة . وقوله : (
من بعد ضراء مستهم ) المراد منه ذلك القحط الشديد . وقوله : (
إذا لهم مكر في آياتنا ) المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام .
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة ، وهو قوله تعالى : (
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) [ يونس : 12 ] إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم
يمكرون عند وجدان الرحمة ويطلبون الغوائل ، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة ، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل .
وأما المقام الثاني : وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات ؛ لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها ؛ لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين ، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية ، والامتناع من المتابعة للغير ، والدليل عليه : أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم ، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات ، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود ، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها ، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم .
الوجه الثاني في تقرير هذا الجواب : أن
أهل مكة قد
حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش ، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى : (
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ، 7 ] وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور ، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة ، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية ، وقوله : (
قل الله أسرع مكرا ) كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم ، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له ، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة . والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله تعالى : (
وإذا أذقنا الناس رحمة ) كلام ورد على سبيل المبالغة ، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم .
[ ص: 54 ]
واعلم أن
رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم ، وإنما تذاق بالعقل ، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق .
المسألة الثالثة : قال
الزجاج : " إذا " في قوله : (
وإذا أذقنا الناس رحمة ) للشرط و " إذا " في قوله (
إذا لهم مكر ) جواب الشرط وهو كقوله : (
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ) [ الروم : 36 ] والمعنى : إذا أذقنا الناس رحمة مكروا ، وإن تصبهم سيئة قنطوا . واعلم أن " إذا " في قوله : (
إذا لهم مكر ) تفيد المفاجأة ، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه .
المسألة الرابعة : سمى تكذيبهم بآيات الله مكرا ؛ لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة ، وهؤلاء
يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة . قال
مقاتل : المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون : هذا رزق الله ، بل يقولون : سقينا بنوء كذا .
أما قوله تعالى : (
قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) فالمعنى أن هؤلاء
الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر ، فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك ، وهو من وجهين ، الأول : ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد ، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال . والثاني : أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه ، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة ، ويكون ذلك سببا للفضيحة التامة والخزي والنكال ، نعوذ بالله تعالى منه .