(
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
[ ص: 65 ] قوله تعالى : (
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة ، شرح
حال من أقدم على السيئات في هذه الآية ، وذكر تعالى من أحوالهم أمورا أربعة :
أولها : قوله : (
جزاء سيئة بمثلها ) والمقصود من هذا القيد التنبيه على
الفرق بين الحسنات وبين السيئات ؛ لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة ، وأما في عمل السيئات فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل ، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلا وذلك حسن ، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة ، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات فهو ظلم ، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير ؛ لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته ، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته ، تعالى الله عن ذلك . هكذا قرره القاضي تفريعا على مذهبه .
وثانيها : قوله : (
وترهقهم ذلة ) وذلك كناية عن الهوان والتحقير ، واعلم أن الكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته ، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات ، فيكون شعوره بكونه ناقصا سببا لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال .
وثالثها : قوله : (
ما لهم من الله من عاصم ) واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات ، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم ، أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم .
ورابعها : قوله : (
كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال : (
ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة )
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة ، فإن
العلم طبعه طبع النور ، والجهل طبعه طبع الظلمة ، فقوله : (
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ) [ عبس : 38 ] المراد منه نور العلم ، وروحه وبشره وبشارته ، وقوله : (
ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ) [ عبس : 40 ] المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة .
المسألة الثانية : قوله :
والذين كسبوا السيئات فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفا على قوله : (
للذين أحسنوا ) كأنه قيل : للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها .
والثاني : أن يكون التقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، على معنى أن جزاءهم أن يجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا يدل على أن
حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل ، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل .
المسألة الثالثة : قال بعضهم : المراد بقوله : (
والذين كسبوا السيئات ) الكفار ، واحتجوا عليه بأن
سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله تعالى : (
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) وكذلك قوله : (
ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) [ عبس : 40 ] ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية : (
ويوم نحشرهم جميعا ) والضمير في قوله : " هم " عائد إلى هؤلاء ، ثم إنه تعالى وصفهم
[ ص: 66 ] بالشرك ، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار ، ولأن العلم نور ، وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة الله تعالى ، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلا ، وكان
الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ، ويقول :
كل بيت أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
وقال القاضي : إن قوله : (
والذين كسبوا السيئات ) عام يتناول الكافر والفاسق . إلا أنا نقول : الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه .
المسألة الرابعة : قال
الفراء : في قوله : (
جزاء سيئة بمثلها ) وجهان :
الأول : أن يكون التقدير : فلهم جزاء السيئة بمثلها ، كما قال : (
ففدية من صيام ) [ البقرة : 196 ] أي : فعليه .
والثاني : أن يعلق الجزاء بالباء في قوله : (
بمثلها ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول . والتقدير : فجزاء سيئة منهم بمثلها .
أما قوله : (
وترهقهم ذلة ) فهو معطوف على يجازي ; لأن قوله : (
جزاء سيئة بمثلها ) تقديره : يجازي سيئة بمثلها ، وقرئ ( يرهقهم ذلة ) بالياء .
أما قوله تعالى : (
كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : (
أغشيت ) أي ألبست (
وجوههم قطعا ) قرأ
ابن كثير والكسائي " قطعا " بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، والقطع بسكون الطاء القطعة ، وهي البعض ، ومنه قوله تعالى (
فأسر بأهلك بقطع من الليل ) [ هود : 81 ] أي : قطعة . وأما قطع بفتح الطاء فهو جمع قطعة ، ومعنى الآية : وصف وجوههم بالسواد ، حتى كأنها ألبست سوادا من الليل ، كقوله تعالى : (
ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) [ الزمر : 60 ] وكقوله : (
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) [ آل عمران : 106 ] وكقوله : (
يعرف المجرمون بسيماهم ) [ الرحمن : 41 ] وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين .
المسألة الثانية : قوله : (
مظلما ) قال
الفراء والزجاج : هو نعت لقوله : (
قطعا ) وقال
أبو علي الفارسي : ويجوز أن يجعل حالا كأنه قيل : أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته .