أما قوله : (
يتعارفون بينهم ) ففيه وجوه :
الأول : يعرف بعضهم بعضا كما كانوا يعرفون في الدنيا .
الثاني : يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض .
فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله : (
ولا يسأل حميم حميما ) [ المعارج : 10 ] والجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضا ، فيقول : كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح ، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة .
وأما قوله تعالى : (
ولا يسأل حميم حميما ) فالمراد سؤال الرحمة والعطف .
والوجه الثاني : في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين ، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة ، فلذلك لا يسأل حميم حميما .
أما قوله تعالى : (
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) ففيه وجهان :
الأول : أن يكون التقدير : ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين ، وحال كونهم قائلين (
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) .
الثاني : أن يكون (
قد خسر الذين كذبوا ) كلام الله ، فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران ، والمعنى : أن من
باع آخرته بالدنيا فقد خسر ، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني .
وأما قوله : (
وما كانوا مهتدين ) فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة ، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة ، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع ، وعذاب القلب .
وأما قوله : (
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ) فاعلم أن قوله (
فإلينا مرجعهم ) جواب (
نتوفينك ) وجواب (
نرينك ) محذوف ، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة .
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا ، وسيزيد عليه بعد وفاته ، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحصل الكثير أيضا بعد وفاته ، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر ، وهو تنبيه على أن
عاقبة المحقين محمودة ،
وعاقبة المذنبين مذمومة .