(
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )
[ ص: 98 ] قوله تعالى : (
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار ، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم ، وفي أمره بتحمل أذاهم ، وبالرفق معهم ، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين ، وتمام الخوف والفزع للمذنبين ، وهو كونه سبحانه عالما بعمل كل واحد ، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف ، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكا وطاعة وزهدا وتقوى ، ويكون باطنه مملوءا من الخبث ، وربما كان بالعكس من ذلك . فإذا كان الحق سبحانه عالما بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين ، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد .
أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام :
فالأول منهما قوله : (
وما تكون في شأن ) واعلم أن " ما " ههنا جحد ، والشأن الخطب والجمع الشئون ، تقول العرب : ما شأن فلان ؛ أي ما حاله .
قال
الأخفش : وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله ، وفيه وجهان :
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : وما تكون يا
محمد في شأن من يريد أعمال البر .
وقال
الحسن : في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها .
والثاني منهما : قوله تعالى : (
وما تتلو منه من قرآن ) واختلفوا في أن الضمير في قوله : " منه " إلى ماذا يعود ؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه راجع إلى الشأن ، لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو معظم شأنه ، وعلى هذا التقدير ، فكان هذا داخلا تحت قوله : (
وما تكون في شأن ) إلا أنه خصه بالذكر تنبيها على علو مرتبته ، كما في قوله تعالى : (
وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] وكما في قوله : (
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم ) [ الأحزاب : 7 ]
الثاني : أن هذا الضمير عائد إلى القرآن ، والتقدير : وما تتلو من القرآن من قرآن ; وذلك لأنه كما أن القرآن اسم للمجموع ، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن ، والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم .
الثالث : أن يكون التقدير : وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله .
وأقول : قوله : (
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ) أمران مخصوصان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وأما قوله : (
ولا تعملون من عمل ) فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة .
والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولا ، ثم عمم الخطاب مع الكل ، هو أن قوله : (
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ) وإن كان بحسب الظاهر خطابا مختصا بالرسول ، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه ؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب ; والدليل عليه قوله تعالى : (
ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ) [ الطلاق : 1 ) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال : (
ولا تعملون من عمل ) فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين .
ثم قال تعالى : (
إلا كنا عليكم شهودا ) وذلك لأن
الله تعالى شاهد على كل شيء ، وعالم بكل شيء ،
[ ص: 99 ] أما على أصول أهل السنة والجماعة ، فالأمر فيه ظاهر ، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى .
فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة ، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه .
والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالما به ، فوجب كونه تعالى عالما بكل المعلومات .
وأما على أصول
المعتزلة ، فقد قالوا : إنه تعالى حي ، وكل من كان حيا ، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات ، والموجب لتلك العالمية ، هو ذاته سبحانه .
فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات ، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات ، فثبت كونه تعالى عالما بجميع المعلومات .