(
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين )
قوله تعالى (
وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله : (
إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ) جزاء معلق على شرطين :
أحدهما متقدم والآخر متأخر ، والفقهاء قالوا : المتأخر يجب أن يكون متقدما ، والمتقدم يجب أن يكون متأخرا . ومثاله أن
يقول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا ، وإنما كان الأمر
[ ص: 117 ] كذلك ; لأن مجموع قوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، صار مشروطا بقوله إن كلمت زيدا ، والمشروط متأخر عن الشرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى والتقدير : كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق ، فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : (
وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله : (
إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ) فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل ، والأمر كذلك ، لأن
الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى ، وإظهار الخضوع ، وترك التمرد ، وأما
الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه ، وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ، ويحصل في القلب نور التوكل على الله ، فهذه الآية من لطائف الأسرار ،
والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى ، والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى .
واعلم أن
من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات ، لقوله : (
ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق : 3 ] .
المسألة الثانية : أن هذا
الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن
نوح - عليه السلام - أنه قال : (
فعلى الله توكلت ) [ يونس : 71 ] وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين ؛ لأن
نوحا - عليه السلام - وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى ،
وموسى - عليه السلام - أمر قومه بذلك ، فكان
نوح - عليه السلام - تاما ، وكان
موسى - عليه السلام - فوق التمام .
المسألة الثالثة : إنما قال : (
فعليه توكلوا ) ولم يقل توكلوا عليه ؛ لأن الأول يفيد الحصر كأنه - عليه السلام - أمرهم بالتوكل عليه ، ونهاهم عن التوكل على الغير ، والأمر كذلك ، لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره ، امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره ; فلهذا السبب جاءت هذه الكلمة بهذه العبارة ، ثم بين تعالى أن
موسى - عليه السلام - لما أمرهم بذلك قبلوا قوله : (
فقالوا على الله توكلنا ) أي توكلنا عليه ، ولا نلتفت إلى أحد سواه ، ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء ، فطلبوا من الله تعالى شيئين :
أحدهما : أن قالوا : (
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) وفيه وجوه : الأول : أن المراد لا تفتن بنا
فرعون وقومه ؛ لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا ، فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر ، فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم .
الثاني : أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم .
الثالث : (
لا تجعلنا فتنة ) أي موضع فتنة لهم ، أي موضع عذاب لهم .
الرابع : أن يكون المراد من الفتنة المفتون ; لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والتكوين بمعنى المكون ، والمعنى : لا تجعلنا مفتونين ، أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه ، وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية ، وهو قوله : (
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف )
[ ص: 118 ] (
من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) .
وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى : (
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) .
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ، وذلك لأنا إن حملنا قولهم : (
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلى الله تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة ، وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم ، وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضا دليلا على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم ، وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة .