إذا ثبت هذا فنقول : قوله : (
ربنا ليضلوا عن سبيلك ) معناه : ليهلكوا ويموتوا ، ونظيره قوله تعالى : (
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) [ التوبة : 55 ] فهذا جملة ما قيل في هذا الباب .
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول : الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه :
الأول : أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده ، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى .
فإن قالوا : إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى ، فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود .
فنقول : فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق ، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول ، وضلال أول ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه ، لأنه كرهه وإنما أراد ضده ، فوجب أن يكون من الله تعالى .
الثاني : إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه ألبتة ، وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله ، وذلك يوجب الكفر ، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم ، وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه .
الثالث : وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية ، فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح ، وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بد وأن يكون من الله تعالى ، وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى .
الرابع :
أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا ، وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم ، وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة
موسى - عليه السلام - والانقياد له ، لا سيما وكان
فرعون كالمنعم في حقه والمربي له ، والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب ، وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة
موسى - عليه السلام - وإصرارهم على إنكار صدقه ، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى
فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم ، فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح ، فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام ، وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا .
إذا عرفت هذا فنقول :
أما الوجه الأول : وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف ، لأن
موسى - عليه السلام - ما كان عالما بالعواقب .
فإن قالوا : إن الله تعالى أخبره بذلك . قلنا : فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا ، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال
[ ص: 122 ] وأما الوجه الثاني : وهو قولهم يحمل قوله (
ليضلوا عن سبيلك ) على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك ، فنقول : إن هذا التأويل ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبو علي الجبائي في تفسيره . وأقول : إنه لما شرع في تفسير قوله تعالى : (
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ "
فمن نفسك " على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره ، وتفتح باب تأويلات الباطنية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة ، وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك ؛ لأنه قلب النفي إثباتا ، والإثبات نفيا ، وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته ، وحينئذ يبطل القرآن بالكلية ، هذا بعينه هو الجواب عن قوله : المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار ، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن ، فلعله تعالى إنما قال : (
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) [البقرة : 110 ] على سبيل الإنكار والتعجب ، وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها .
ثم إنه تعالى حكى عن
موسى - عليه السلام - أنه قال : (
ربنا اطمس على أموالهم ) وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى : (
من قبل أن نطمس وجوها ) [ النساء : 47 ] والطمس هو المسخ . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه ما : بلغنا أن الدراهم والدنانير ، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا ، وجعل سكرهم حجارة .