(
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون )
قوله تعالى : (
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية
شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين ، ويعد أتباعه أن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ، ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ، ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي واقعة
نوح وواقعة
موسى عليهما السلام مع فرعون ، وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ، ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ، ومبالغته في تقرير الدلائل وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد ؛ لأن
الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته ، فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن
جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى ، فقالوا : كلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : (
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم ) يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية ، فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل ، أجاب
الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ، ولكنه ما فعل ذلك ؛ لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ، ثم قال
الجبائي : ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك أن يعرفهم اضطرارا أنهم لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه ، كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهرا لم يكن تركه لذلك الفعل سببا لاستحقاق المدح والثواب ، فكذا ههنا .
واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن
الكافر كان قادرا على الكفر ، فهل كان قادرا على الإيمان أو ما كان قادرا عليه ؟ فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال : إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ، فوجب أن يقال : إنه أراد منه الكفر ، وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل ، وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل
[ ص: 134 ] وهو محال ، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجبا لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام .
الثاني : أن قوله : (
ولو شاء ربك ) لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة ، فبين تعالى أنه
لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : (
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ، فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظما ، فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع .
الثالث : المراد بهذا الإلجاء ، إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، ثم يأتي بالإيمان عندها . وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم . والأول باطل ؛ لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد ، وهو قوله : (
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ، وقال أيضا : (
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) [الأنعام : 111] ، وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهذا عين مذهبنا .
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال : (
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد ، والمقصود منه بيان أن
القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة قولهم : إنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله : (
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، قالوا : وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج . وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ، ثم قالوا : والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه :
الأول : أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه ، فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل ، بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائدا إلى المشكور أو إلى الشاكر ، والأول باطل ؛ لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران ، فلا جرم كان الشكر حسنا والكفران قبيحا ، أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران ، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلا . والثاني أيضا باطل ؛ لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة ، مع أن المشكور لا ينتفع به البتة . ولا يمكن أن يقال : إن ذلك الشكر علة الثواب ؛ لأن الاستحقاق على الله تعالى محال ، فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ، ولما كان الحق سبحانه منزها عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه ، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر لا يفيد نفعا بحسب العقل المحض ، وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجبا له ، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى : (
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، قال القاضي : المراد أن
الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه .
وجوابنا : أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر ، وذلك لا يجوز ، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا .
[ ص: 135 ] المسألة الثالثة : قرأ
أبو بكر عن
عاصم : " ونجعل " بالنون ، وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى .
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن
خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى : (
ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) ، وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح ؛ قال تعالى : (
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [الأحزاب : 33] ، والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح ، سواء كان كفرا أو معصية ، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه . والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر ، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى .
أجاب
أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرجس يحتمل وجهين آخرين :
أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فقوله : (
ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) أي يلحق العذاب بهم ، كما قال : (
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) [الفتح : 6] .
والثاني : أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال : (
إنما المشركون نجس ) [التوبة : 28] والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم .
والجواب : أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد ؛ لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه ، وإنما يريد ضده ، وإنما قصد إلى تحصيل ضده ، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده ، وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب . وأما حمل الرجس على العذاب فهو باطل ؛ لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره ، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقا صدقا صوابا ، وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد ؛ لأن حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال : إن صفة الله رجس ، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة .