الفصل الثاني
في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة
ولنتكلم في قولنا ( أعوذ بالله ) فنقول : أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع ، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل ، وأما
الباء في قوله بالله فهي باء الإلصاق ، وهي نوع من أنواع حروف الجر ، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف .
وأما قولنا : الله فهو اسم معين : إما من أسماء الأعلام أو من الأسماء المشتقة على اختلاف القولين فيه ، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم ، وقد ثبت في العلوم العقلية أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس : لأن الجنس جزء من ماهية النوع ، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة ، فقولنا ( أعوذ بالله ) لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولا ، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها ، ثم بعد الفراغ منه لا بد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم ، وإلى الاسم المشتق ، وإلى اسم الجنس ، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه .
ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن
لفظة : (الله ) اسم علم أو اسم مشتق ، وبتقدير أن يكون مشتقا فهو مشتق من ماذا؟ ، ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها ، وأيضا يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق ، ثم يذكر بعده أقسام الفعل ، ومن جملتها الفعل المضارع ، ويذكر حده وخواصه وأقسامه ، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا أعوذ على التخصيص ، وأيضا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق ، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ، ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه ، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله ( أعوذ بالله ) ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدا .
ثم نقول : والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول :
الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة ، فيجب البحث أيضا عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها ، وأيضا فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة وهي : الكلام والقول واللفظ واللغة والعبارة ، فيجب البحث عن كل واحد منها ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة أو من الألفاظ المتباينة ، وبتقدير أن تكون ألفاظا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل .
ثم نقول : والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول : لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت وعن أسباب وجوده . ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر ، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس ، وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفسا على سبيل الضرورة ، وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه ، وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة ، ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين ، وأما الحرف
[ ص: 22 ] فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت ، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له ، وأيضا لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت ، وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين ، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس ، ويجب أيضا البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود ، وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح .
ثم نقول : والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع ، وأما الألوان والأضواء فهي كيفيات محسوسة بحاسة البصر ، والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق ، وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة ، فهل يصح أن يقال : هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية ، وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا ؟
ثم نقول : والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف ، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا ؟
ثم نقول : والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف ومقولة الكم ومقولة النسبة عرض ، فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه .
ثم نقول : والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن ، والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود ، فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم ، وهي كيفية وقوع الموجود والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها ، وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب .
ثم نقول : والمرتبة العاشرة أن نقول : لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم ، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود ؟ ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم ، وأيضا فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم ، ولا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم ، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلا لغيره فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلا للمعلوم ، وجب أن يكون غير المعلوم معلوما فحينئذ يكون المقابل للمعلوم معلوما وذلك محال .
واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها ولا يحيط عقله بأقل القليل منها ، فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة .