(
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )
[ ص: 172 ] قوله تعالى : (
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية ، وهي قولهم : لا يتبعك إلا الأراذل من الناس ، وتقرير هذا الجواب من وجوه :
الوجه الأول :
أنه عليه الصلاة والسلام قال : أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا أو غنيا ، وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين . وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك .
الوجه الثاني : كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرا ، وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظن منكم خطأ ؛ فإني لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ، إن أجري إلا على رب العالمين ، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد .
والوجه الثالث : في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا : (
ما نراك إلا بشرا مثلنا ) إلى قوله : (
وما نرى لكم علينا من فضل ) ، فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعا كثيرة توجب فضله عليهم ، ولذلك لم يسع في طلب الدنيا ، وإنما يسعى في
طلب الدين ، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل ، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه .
فأما قوله : (
وما أنا بطارد الذين آمنوا ) فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعا لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء . روى
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا
نوح أن نتبعك فاطردهم ؛ فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : (
وما أنا بطارد الذين آمنوا ) ، وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا : (
وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم ؛ لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون : لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم ، ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم ، وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أمورا :
الأول : أنهم ملاقو ربهم ، وهذا الكلام يحتمل وجوها :
منها : أنهم قالوا : هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم . فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة .
ومنها : أنه جعله علة في الامتناع من الطرد ، وأراد أنهم ملاقو ما وعدهم ربهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة .
ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة ، فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني .
ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال : (
ولكني أراكم قوما تجهلون ) .
ثم قال بعده : (
ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ) والمعنى : أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من
تعظيم المؤمن البر التقي ، ومن إهانة الفاجر الكافر ، فلو قلبت القصة وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد
[ ص: 173 ] أمر الله تعالى ، وعلى عكس حكمه ، وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين ، والعقاب إلى المبطلين ، وحينئذ أصير مستوجبا للعقاب العظيم ، فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله ، أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ؟
ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال : (
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالا ولا لي غرض في المال ؛ لا أخذا ولا دفعا ، ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ، ولا أقول : إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتواضع ، ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ، ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين ، وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين ، فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء ، فكيف جعلتم ذلك عيبا علي ؟ ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال : (
ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم ) ، وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق ، فقال : إني لا أقول ذلك ؛ لأنه من باب الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله ، فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة ، فأكون كاذبا فيما أخبرت به ، فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم ، مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة .
المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على
تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا : إن الإنسان إذا قال : أنا لا أدعي كذا وكذا ، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل ، فلما كان قائل هذا القول هو
نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ، ثم قالوا : وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة ؟ وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء :
أولها : الاستغناء المطلق ، وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنيا ، فقوله : (
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق .
وثانيها : العلم التام ، وإليه الإشارة بقوله : (
ولا أعلم الغيب ) .
وثالثها : القدرة التامة الكاملة ، وقد تقرر في الخواطر أن
أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة ، وإليه الإشارة بقوله : (
ولا أقول إني ملك ) ، والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية ، فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه ، وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن قوله : (
ولا أقول إني ملك ) يدل على أنهم أكمل من البشر ، وأيضا يمكن جعل هذا الكلام جوابا عما ذكروه من الشبهة ، فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر ، فقال : (
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) حتى أجعلهم أغنياء ، وطعنوا فيهم أيضا بأنهم منافقون فقال : (
ولا أعلم الغيب ) حتى أعرف كيفية باطنهم ، وإنما أجري الأحوال على الظواهر ، وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال : (
ولا أقول إني ملك ) حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية .
المسألة الثالثة : احتج قوم بهذه الآية على
صدور الذنب من الأنبياء فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ، ثم إن
محمدا صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله : (
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) [الأنعام : 52]
[ ص: 174 ] وذلك يدل على إقدام
محمد صلى الله عليه وسلم على الذنب .
والجواب : يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد ، والطرد المذكور في واقعة
محمد صلى الله عليه وسلم على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح .
المسألة الرابعة : احتج
الجبائي على أنه لا تجوز
الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول
نوح عليه السلام (
من ينصرني من الله إن طردتهم ) معناه إن كان هذا الطرد محرما فمن ذا الذي ينصرني من الله ، أي من الذي يخلصني من عقابه ، ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق
نوح عليه السلام أيضا جائزة ، وحينئذ يبطل قوله : (
من ينصرني من الله ) واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى : (
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) [البقرة : 48] إلى قوله : (
ولا هم ينصرون ) [البقرة : 48] والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام .