(
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )
قوله تعالى : (
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )
واعلم أن قوله تعالى : (
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) يقتضي تعريف
نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم ، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب ، فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق ، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة ، لا جرم أمره الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها ، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر .
فإن قيل : قوله تعالى : (
واصنع الفلك ) أمر إيجاب أو أمر إباحة ؟
[ ص: 178 ] قلنا : الأظهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق ، وصون النفس عن الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب ، بل كان أمر إباحة ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا ليسكنها ويقيم بها .
أما قوله : (
بأعيننا ) فهذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره من وجوه :
أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة . وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى : (
ولتصنع على عيني ) .
وثانيها : أنه يقتضي أن يصنع
نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين ، كما يقال : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل .
وثالثها : أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية
كونه تعالى منزها عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض ، فوجب المصير فيه إلى التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : أن
معنى ( بأعيننا ) أي : بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة ، يقال : فلان عين على فلان ؛ نصب عليه ليكون متفحصا عن أحواله ولا تحول عنه عينه .
الثاني : أن من كان عظيم العناية بالشيء ، فإنه يضع عينه عليه ، فلما كان وضع العين على الشيء سببا لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط ، فلهذا قال المفسرون : معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك . وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين :
أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل .
والثاني : أن يكون عالما بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه . وقوله : (
ووحينا ) إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب .
وأما قوله : (
ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) ففيه وجوه :
الأول : يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم ؛ فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم ، فلما علم
نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : (
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [نوح : 26] .
الثاني : (
ولا تخاطبني ) في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا ، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعا .
الثالث : المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان .