صفحة جزء
( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )

قوله تعالى : ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ) .

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود - عليه السلام - لقومه ، وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد ، وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة ، والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة ، قال أبو بكر الأصم : استغفروا ، أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ، ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى ، وبالعزم على أن لا تعودوا إلى مثله ، ثم إنه - عليه السلام - قال : " إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ، ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم " وهذا غاية ما يراد من السعادات ، فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع ، وإن كانت حاصلة إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضا ، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة ، فقوله تعالى : ( يرسل السماء عليكم مدرارا ) إشارة إلى تكثير النعم ؛ لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة ، وقوله : ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة ، ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات ، وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل ، ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ؛ ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية ، وأما المفسرون فإنهم قالوا : القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال :

أحدهما : أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة ، والدليل عليه قوله : ( إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ) [الفجر : 7] .

والثاني : أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ؛ ولذلك قالوا : ( من أشد منا قوة ) [فصلت : 15 ] ، ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين ، وعدهم هود - عليه السلام - أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة ، فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ، ويزيدهم فيها درجات كثيرة ، ونقل أيضا أن الله تعالى لما بعث هودا - عليه السلام - إليهم كذبوه ، وحبس الله عنهم المطر سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فقال لهم هود : إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ، ورزقكم المال والولد ، فذلك قوله : ( يرسل السماء عليكم مدرارا ) والمدرار : الكثير الدر ، وهو من أبنية المبالغة ، وقوله : ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ففسروا هذه القوة بالمال والولد ، والشدة في الأعضاء ؛ لأن كل ذلك مما يتقوى به الإنسان .

فإن قيل : حاصل الكلام هو أن هودا - عليه السلام - قال : لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال : " خص البلاء بالأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل " فكيف الجمع بينهما ؟ وأيضا فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات ؛ بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها ، فأما الترغيب في الطاعات لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها ، فذلك [ ص: 11 ] لا يليق بالقرآن ، بل هو طريق مذكور في التوراة .

الجواب : أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية ، لم يبعد الترغيب أيضا في خير الدنيا بقدر الكفاية .

وأما قوله : ( ولا تتولوا مجرمين ) فمعناه : لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين ، أي مصرين على إجرامكم وآثامكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية