(
قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )
قوله تعالى : (
قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) .
اعلم أنه تعالى لما حكى عن
هود - عليه السلام - ما ذكره للقوم ، حكى أيضا ما ذكره القوم له ، وهو أشياء :
أولها : قولهم : (
ما جئتنا ببينة ) أي بحجة ، والبينة سميت بينة ؛ لأنها تبين الحق من الباطل ، ومن المعلوم أنه - عليه السلام - كان قد أظهر المعجزات ، إلا أن القوم بجهلهم أنكروها ، وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات .
وثانيها : قولهم : (
وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) وهذا أيضا ركيك ؛ لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى ، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ، ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها ، وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله ، بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس .
وثالثها : قولهم : (
وما نحن لك بمؤمنين ) وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود .
ورابعها : قولهم : (
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) يقال : اعتراه كذا ، إذا غشيه وأصابه ، والمعنى : أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنونا وأفسدت عقلك ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال
هود - عليه السلام - : (
إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) وهو ظاهر .
ثم قال : (
فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني ) وهذا نظير ما قاله
نوح - عليه السلام - لقومه : (
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) [يونس : 71 ] إلى قوله : (
ولا تنظرون ) .
واعلم أن هذا
معجزة قاهرة ، وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم : بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون - فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقا من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كيد الأعداء .
[ ص: 12 ] ثم قال : (
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) قال
الأزهري : الناصية عند العرب : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته .
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه مطيع له ؛ لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ؛ ليكون ذلك علامة لقهره ، فخوطبوا في القرآن بما يعرفون ، فقوله : (
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) أي
ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ، ومنقاد لقضائه وقدره .
ثم قال : (
إن ربي على صراط مستقيم ) وفيه وجوه :
الأول : أنه تعالى لما قال : (
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم ، فأتبعه بقوله : (
إن ربي على صراط مستقيم ) أي إنه وإن كان قادرا عليهم لكنه لا يظلمهم ، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب . قالت
المعتزلة قوله : (
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) يدل على التوحيد ، وقوله : (
إن ربي على صراط مستقيم ) يدل على العدل ، فثبت أن
الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل .
والثاني : أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله : (
إن ربي على صراط مستقيم ) يعني أنه لا يخفى عليه مستتر ، ولا يفوته هارب ، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه ، كما قال : (
إن ربك لبالمرصاد ) [الفجر : 14 ] .
الثالث : أن يكون المراد (
إن ربي ) يدل على الصراط المستقيم ، أي : يحث أو يحملكم بالدعاء إليه .