ثم قال تعالى : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال قوم إن عذاب الكفار منقطع وله نهاية ، واحتجوا بالقرآن والمعقول ، أما القرآن فآيات منها هذه الآية ، والاستدلال بها من وجهين :
الأول : أنه تعالى قال : (
ما دامت السماوات والأرض ) دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض ، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السماوات والأرض متناهية ، فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة .
الثاني : أن قوله : (
إلا ما شاء ربك ) استثناء من مدة عقابهم ، وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ، ومما تمسكوا به أيضا قوله تعالى في سورة "عم يتساءلون" : (
لابثين فيها أحقابا ) [النبأ : 23 ] بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقابا معدودة .
وأما العقل فوجهان :
الأول : أن معصية الكافر متناهية ، ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم ، وأنه لا يجوز .
الثاني : أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحا .
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى ؛ لكونه متعاليا عن النفع والضرر ، ولا إلى ذلك المعاقب ؛ لأنه في حقه ضرر محض ، ولا إلى غيره ؛ لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم ، فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم ، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع ، فوجب أن لا يجوز ، وأما الجمهور الأعظم من الأمة ، فقد اتفقوا على أن
عذاب الكافر دائم ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية . أما قوله : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) فذكروا عنه جوابين :
الأول : قالوا : المراد سماوات الآخرة وأرضها ، قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضا قوله تعالى : (
يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [إبراهيم : 48 ] ، وقوله : (
وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) [الزمر : 74 ] وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم ، وذلك هو الأرض والسماوات .
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوما مقررا ، فيشبه به غيره ؛ تأكيدا لثبوت الحكم في المشبه ، ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم ، وبتقدير أن يكون وجودهما معلوما ، إلا أن بقاءهما على وجه لا يفنى البتة غير معلوم ، فإذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق ودوامهما أيضا
[ ص: 52 ] مجهولا للأكثر - كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاما عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لما ثبت بالقرآن وجود سماوات وأرض في الآخرة ، وثبت دوامهما ، وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التشبيه ، إلا أنا نقول : لما كان الطريق في إثبات دوام سماوات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل ، فكذا ههنا .
والوجه الثاني في الجواب : قالوا : إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم : ما دامت السماوات والأرض ، ونظيره أيضا قولهم : ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل ، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم ، فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد ، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع .
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أن قول القائل : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السماوات ، أو تقولون : إنه لا يدل على هذا المعنى ؟
فإن كان الأول ، فالإشكال لازم ؛ لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السماوات ، ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السماوات ، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السماوات ، فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وأما إن قلتم : هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السماوات والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة ، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع .
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر ، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السماوات والأرض دائمتين ، كان كونهم في النار باقيا ، فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ، ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط ، ألا ترى أنا نقول : إن كان هذا إنسانا فهو حيوان . فإن قلنا : لكنه إنسان ، فإنه ينتج أنه حيوان ، أما إذا قلنا : لكنه ليس بإنسان ، لم ينتج أنه ليس بحيوان ؛ لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا ، فكذا ههنا إذا قلنا : متى دامت السماوات دام عقابهم ، فإذا قلنا : لكن السماوات دائمة ، لزم أن يكون عقابهم حاصلا ، أما إذا قلنا : لكنه ما بقيت السماوات ، لم يلزم عدم دوام عقابهم .
فإن قالوا : فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السماوات أو لم تبق ، لم يبق لهذا التشبيه فائدة .
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهرا دهرا ، وزمانا لا يحيط العقل بطوله وامتداده ، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا ، فذلك يستفاد من دلائل أخر ، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ، ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئا من المعقولات .
وأما الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى : (
إلا ما شاء ربك ) فقد ذكروا فيه أنواعا من الأجوبة .
الوجه الأول في الجواب : وهو الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري والفراء ، قالوا : هذا استثناء استثناه الله تعالى ، ولا يفعله ألبتة ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، مع أن عزيمتك تكون على ضربه ، فكذا ههنا ، وطولوا في تقرير هذا الجواب ، وفي ضرب الأمثلة فيه ، وحاصله ما ذكرناه .
[ ص: 53 ] ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إذا قال : لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك الضرب ، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك ، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزما ، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام .
الوجه الثاني في الجواب : أن يقال : إن كلمة (
إلا ) ههنا وردت بمعنى : سوى ، والمعنى أنه تعالى لما قال : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السماوات والأرض في الدنيا ، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم ، فذكر أولا في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله : (
إلا ما شاء ربك ) المعنى : إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها .
الوجه الثالث في الجواب : وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف ، فكأنه تعالى قال : فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة ، فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار ، وقال
أبو بكر الأصم : المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر ، أو المراد : إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا ، وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة ، والمعنى : خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا ، أو في البرزخ ، أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار .
الوجه الرابع في الجواب قالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : (
لهم فيها زفير وشهيق ) وتقريره أن نقول : قوله : (
لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ) يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود ، فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع ، لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه ، فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين ، فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق ، فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع ، فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار .
الوجه الخامس في الجواب : أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبدا في النار ، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب ، وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء .
الوجه السادس في الجواب : قال قوم : هذا الاستثناء يفيد
إخراج أهل التوحيد من النار ؛ لأن قوله : (
فأما الذين شقوا ففي النار ) يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ، ثم قوله : (
إلا ما شاء ربك ) يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع ، ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم ، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال : الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة ، وهذا كلام قوي في هذا الباب .
فإن قيل : فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها ، فما الدليل على فسادها ؟ وأيضا فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء ، فإنه تعالى قال : (
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) .
[ ص: 54 ] قلنا : إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار .
قلنا : أما حمل كلمة "إلا " على سوى فهو عدول عن الظاهر ، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضا ؛ لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار ، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار ، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه ، وامتنع حصول الاستثناء ، وأما قوله : الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق ، فهذا أيضا ترك للظاهر ، فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه .
وأما قوله : المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير ، فنقول : لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السماوات والأرض ، والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مرارا ، فبطل هذا الوجه .
وأما قوله : إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء ، فنقول : أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال : إن أحدا يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار ؛ فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات ، أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع ، فوجب إجراؤها على ظاهرها ، فهذا تمام الكلام في هذه الآية .