(
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )
قوله تعالى : (
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) .
[ ص: 64 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة :
الفائدة الأولى :
تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ، وذلك لأن الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه ، كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، فإذا سمع الرسول هذه القصص ، وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه ، وأمكنه الصبر عليه .
والفائدة الثانية : قوله : (
وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) .
وفي قوله : (
في هذه ) وجوه :
أحدها : في هذه السورة .
وثانيها : في هذه الآية .
وثالثها : في هذه الدنيا ، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع .
واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها أن حال سائر السور بخلاف ذلك ، لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور ، ولو لم يكن فيها إلا قوله : (
فاستقم كما أمرت ) لكان الأمر كما ذكرنا . ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة : الحق والموعظة والذكرى .
أما الحق : فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة .
وأما الذكرى : فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة .
وأما الموعظة : فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة ، والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة ، وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم ، فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم ، فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه .
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة : وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب ، وقابلها هو القلب ، والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية ، لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل ، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب ، وهو تثبيت الفؤاد ، ثم لما ذكر صلاح حال القابل ، أردفه بذكر الموجب ، وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة .