المسألة الرابعة : اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشا ، ونظيره قوله : (
أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا ) [ النمل : 61 ] ، وقوله : (
الذي جعل لكم الأرض مهدا ) [ طه : 53 ، الزخرف : 10 ] ، واعلم أن
كون الأرض فراشا مشروط بأمور :
الشرط الأول : كونها ساكنة ، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالاستقامة أو بالاستدارة ، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشا لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية ، وذلك الإنسان هاو ، والأرض أثقل من الإنسان ، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأبطأ لا يلحق الأسرع ، فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشا .
أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها ؛ لأن حركة الأرض مثلا إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع ، فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد ، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة .
ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه :
أحدها : أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل ، وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل ، وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام .
وثانيها : الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا : الأرض ليست كرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل ، وذلك السطح موضوع على الماء والهواء ، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء ، وإن جمعت رسبت . وهذا باطل لوجهين : الأول : أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض . والثاني : لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطا حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدبا ؟
وثالثها : الذين قالوا : سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب ، فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط . وهذا باطل لوجهين : الأول : أن الأصغر أسرع انجذابا من الأكبر ، فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك . الثاني : الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود .
ورابعها : قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب ، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة ، فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب . وهذا أيضا باطل من وجوه خمسة :
الأول : الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا ؟ .
الثاني : ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها . الثالث : ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق . الرابع : يجب أن يكون الثقيل كلما كان
[ ص: 95 ] أعظم أن تكون حركته أبطأ ؛ لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر ، أبطأ من اندفاع الأصغر . الخامس : يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء ؛ لأنه عند الابتداء أبعد من الفلك .
وخامسها : أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك ، وهو قول
أرسطاطاليس وجمهور أتباعه ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بد وأن يكون جائزا ، فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار .
وسادسها : قال
أبو هاشم : النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة ، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة ، فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف . والسؤال عليه : أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار . فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى .
وعند هذا نقول : انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها ، أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد ، على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية ، وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بد من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ، ولهذا قال الله تعالى : (
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) [ فاطر : 41 ] .
الشرط الثاني في كون الأرض فراشا لنا : أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر ، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن ، وأيضا فلو كانت الأرض من الذهب مثلا لتعذرت الزراعة عليها ، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد ؛ وأن لا تكون في غاية اللين ، كالماء الذي تغوص فيه الرجل .
الشرط الثالث : أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية ؛ فإن الشفاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس ، فكان يبرد جدا ، فجعل الله كونه أغبر ، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشا للحيوانات .
الشرط الرابع : أن تكون بارزة من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصا في الماء ، فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشا لنا ، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا لنا .
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشا أن لا تكون كرة ، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يزيده تقريرا أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها ، فهذا أولى والله أعلم .