المسألة الثالثة : قرأ
أبو عمرو " وقلن حاشا لله " بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي عن
نافع [ ص: 103 ] وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد ، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورانها على الألسن اتباعا للمصحف . و " حاشا " كلمة تفيد معنى التنزيه ، والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله . وأما قوله : (
حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله .
المسألة الرابعة : قوله : (
ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) فيه وجهان :
الوجه الأول : وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم : (
طلعها كأنه رءوس الشياطين ) [ الصافات : 65 ] وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك ، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف
يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك .
والوجه الثاني : وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن
الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة ، وجواذب الغضب ، ونوازع الوهم والخيال ، فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ، ثم إن النسوة لما رأين
يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن البتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرا من أثر الشهوة ، ولا شيئا من البشرية ، ولا صفة من الإنسانية ، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر ، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية .
فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة ؟ فالجواب قد سبق . والله أعلم .
المسألة الخامسة : القائلون بأن
الملك أفضل من البشر ، احتجوا بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في معرض تعظيم
يوسف عليه السلام ، فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سببا لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالا من البشر ، ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر ، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطل لوجهين :
الأول : أنهم وصفوه بكونه كريما ، وإنما يكون كريما بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة .
والثاني : أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة البتة . أما كونه بعيدا عن الشهوة والغضب معرضا عن اللذات الجسمانية متوجها إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب والروح فيه ، فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة .
وإذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه البتة ، فثبت أن تشبيه
يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن ، لا في الصورة الظاهرة ، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالا من الإنسان في هذه الفضائل ، فثبت أن الملك أفضل من البشر ، والله أعلم .
المسألة السادسة : لغة
أهل الحجاز إعمال " ما " عمل ليس وبها ورد قوله : (
ما هذا بشرا ) ومنها قوله : (
ما )
[ ص: 104 ] (
هن أمهاتهم ) [ المجادلة : 2 ] ومن قرأ على لغة
بني تميم ، قرأ " ما هذا بشر " وهي قراءة
ابن مسعود ، وقرئ " ما هذا بشرا " أي ما هو بعبد مملوك للبشر (
إن هذا إلا ملك كريم ) ثم نقول : ما هذا بشرا ، أي حاصل بشرا بمعنى هذا مشترى ، ونقول : هذا لك بشرا أم بكرا ، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ، ولمقابلة البشر للملك .