(
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )
قوله تعالى : (
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن
يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال : قد فعلت ، بل الله سبحانه قال : (
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت ، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك قد أجابه ما سأل .
وأقول : ما قالوه حسن ، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه ؛ وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر ، وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض ، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد ، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي ، وما دام يبقى هذا التساوي امتنع حصول القبول ، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك ، وذلك الترجح لا يكون إلا
[ ص: 130 ] بمرجح يخلقه الله تعالى ، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح ؛ حصل القبول لا محالة ،
فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب [حصول] الأثر ، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي ، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو .
المسألة الثانية : روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلده بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت ، فقال
يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، وجلس على السرير ودانت له القوم ، وعزل الملك
قطفير زوج المرأة المعلومة ، ومات بعد ذلك ، وزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما طلبت ؟ فوجدها عذراء فولدت له ولدين
إفرايم وميشا ، وأقام العدل
بمصر ، وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك ، وكثير من الناس ، وباع من
أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم سنين ، فقالوا : والله ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له ، فلما سمع ذلك قال : إني أشهد الله أني أعتقت
أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين ، هكذا رواه صاحب "الكشاف" والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله : (
وكذلك ) الكاف منصوبة بالتمكين ، وذلك إشارة إلى ما تقدم ، يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك ، وإنجائنا إياه من غم الحبس ، وقوله : (
مكنا ليوسف في الأرض ) أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع ، وقوله : (
يتبوأ منها حيث يشاء ) يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره : مكناه متبوأ ، وقرأ
ابن كثير : ( نشاء ) بالنون مضافا إلى الله تعالى ، والباقون بالياء مضافا إلى
يوسف .
واعلم أن قوله : (
يتبوأ منها حيث يشاء ) يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ، ولا ينازعه منازع ، بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد ، ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله ، فقال : (
نصيب برحمتنا من نشاء ) .
واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه ، وهو قوله : (
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) ثم أكد ذلك ثانيا بقوله : (
نصيب برحمتنا من نشاء ) وفيه فائدتان :
الفائدة الأولى : أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى .
قال القاضي : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى .
وجوابه : أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى ؛ لأن لفظ القرآن يدل على قولنا ، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا ، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه .
الفائدة الثانية : أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة .
قال القاضي : هذه الآية تدل على
أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح .
[ ص: 131 ]
قلنا : الآية تدل على أن
الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة ، فأما رعاية قيد الصلاح ، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه .
ثم قال تعالى : (
ولا نضيع أجر المحسنين ) وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى ، فكانت الإضاعة ممتنعة .
واعلم أن هذا
شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ، ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال : إنه كان من المحسنين ، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على
يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر ، أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق .
ثم قال تعالى : (
ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية قولان :
القول الأول : المراد منه أن
يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل ، وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا ، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم ، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ، ومفقودة في خيرات الدنيا .
القول الثاني : أن
لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال : ( الجلاب خير من الماء ) ، وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل ، كما يقال : الثريد خير من الله ، يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله .
إذا ثبت هذا فقوله : (
ولأجر الآخرة خير ) إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات ، بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير ، وأما ما سواه فعبث .
المسألة الثانية : لا شك أن المراد من قوله : (
ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) شرح حال
يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذا تنصيص من الله - عز وجل - على أنه كان في الزمان السابق من المتقين ، وليس ههنا زمان سابق
ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه : (
ولقد همت به وهم بها ) ( يوسف : 24 ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين ، وأيضا قوله : (
ولا نضيع أجر المحسنين ) شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين ، وقوله : (
إنه من عبادنا المخلصين ) ( يوسف : 24 ) شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن
يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين ، والجاهل الحشوي يقول : إنه كان من الأخسرين المذنبين ، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين .
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : (
ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) يدل على
بطلان قول المرجئة : الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر .
[ ص: 132 ]
قلنا : هذا ضعيف ؛ لأنا إن حملنا لفظ " خير " على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلا ، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية ، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ، ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير .