(
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون )
قوله تعالى : (
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون )
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها
يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم ، فقال لبنيه : إن
بمصر رجلا صالحا يمير الناس ، فاذهبوا إليه بدراهمكم ، وخذوا الطعام ، فخرجوا إليه ، وهم عشرة ، ودخلوا على
يوسف عليه السلام ، وصارت هذه الواقعة كالسبب في
اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته ، وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله
ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب : (
لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) ( يوسف : 15 ) وأخبر تعالى أن
يوسف عرفهم وهم ما عرفوه البتة ، أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله : (
لتنبئنهم بأمرهم ) ( يوسف : 15 ) بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه ، وأيضا الرؤيا التي رآها كانت دليلا على أنهم يصلون إليه ، فلهذا السبب كان
يوسف عليه السلام مترصدا لذلك الأمر ، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ؛ ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا ؟ فلما وصل إخوة
يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصا ظهر له أنهم إخوته ، وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه :
الأول : أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ، ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه ؛ لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف ، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان .
والثاني : هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيرا ، ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية ، وتغير الزي والهيئة ، فإنهم رأوه جالسا على سريره ، وعليه ثياب الحرير ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج من ذهب ، والقوم أيضا نسوا واقعة
يوسف عليه السلام لطول المدة .
فيقال : إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة ، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة ، لا سيما عند اجتماعها .
والثالث : أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى ، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقا لما أخبره عنه بقوله : (
لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) ( يوسف : 15 ) وكان ذلك من معجزات
يوسف عليه السلام .
ثم قال تعالى : (
ولما جهزهم بجهازهم ) قال
الليث : جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازهم
[ ص: 133 ] للسفر ، وكذلك جهاز العروس والميت ، وهو ما يحتاج إليه في وجهه .
قال : وسمعت
أهل البصرة يقولون : الجهاز بالكسر . قال
الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم ، والكسر لغة ليست بجيدة .
قال المفسرون : حمل لكل رجل منهم بعيرا وأكرمهم أيضا بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر ، فذلك قوله : (
جهزهم بجهازهم ) ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال : (
ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) .
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سببا لسؤال
يوسف عن حال أخيهم ، وذكروا فيه وجوها :
الوجه الأول وهو أحسنها : إن عادة
يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص ، وإخوة
يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة ، فأعطاهم عشرة أحمال ، فقالوا : إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه ، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر ، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضا من شيء من الطعام ، فجهز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام ، فلما ذكروا ذلك قال
يوسف : فهذا يدل على أن حب أبيكم له أزيد من حبه لكم ، وهذا شيء عجيب ؛ لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم ؛ دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل ، وفي الفضل والأدب ؛ فجيئوني به حتى أراه ، فهذا السبب محتمل مناسب .
والوجه الثاني : أنهم لما دخلوا عليه - عليه السلام - وأعطاهم الطعام ، قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن قوم رعاة من
أهل الشام ، أصابنا الجهد ؛ فجئنا نمتار ، فقال : لعلكم جئتم عيونا ، فقالوا : معاذ الله نحن إخوة ، بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه
يعقوب ، قال : كم أنتم قالوا : كنا اثني عشر ؛ فهلك منا واحد ، وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك ، ونحن عشرة وقد جئناك قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة ، وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم ؛ فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة
شمعون ، وكان أحسنهم رأيا في
يوسف فخلفوه عنده .
والوجه الثالث : لعلهم لما ذكروا أباهم قال
يوسف : فلم تركتموه وحيدا فريدا ؟ قالوا : ما تركناه وحيدا ، بل بقي عنده واحد .
فقال لهم : لم استخلصه لنفسه ؟ ولم خصه بهذا المعنى ؟ لأجل نقص في جسده ؟ فقالوا : لا . بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد ، فعند هذا قال
يوسف : لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة ، ثم إنه خصه بمزيد المحبة ؛ وجب أن يكون زائدا عليكم في الفضل ، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء ؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ ؛ فائتوني به .
والسبب الثاني : ذكره المفسرون ، والأول والثالث محتمل والله أعلم .
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال : (
ألا ترون أني أوفي الكيل ) أي أتمه ولا أبخسه ، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم ، (
وأنا خير المنزلين ) ، أي : خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم . وأقول : هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين ، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقول لهم : (
ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ) وأيضا يبعد من
يوسف عليه السلام مع كونه صديقا أن يقول لهم : أنتم جواسيس وعيون ، مع أنه
[ ص: 134 ] يعرف براءتهم عن هذه التهمة ، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق .
ثم قال : (
فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ) .
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب .
أما الترغيب : فهو قوله : (
ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ) وأما الترهيب : فهو قوله : (
فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ) وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام ، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده ، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف ، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من
يوسف قالوا : (
سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ) أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده ، وإنا لفاعلون هذه المراودة ، والغرض من التكرير التأكيد ، ويحتمل أن يكون (
وإنا لفاعلون ) أن نجيئك به ، ويحتمل (
وإنا لفاعلون ) كل ما في وسعنا من هذا الباب .