المسألة الثالثة : في
بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها ، وهي الشمس والقمر والنجوم :
أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها ، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله ، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم ، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة ، ولكن تأمل النفع في غروبها ، فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى : (
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) [ يونس : 67 ] ، وأيضا فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال : (
وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) [ النبأ : 10 ، 11 ] والثالث : أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال : (
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ) [ الفرقان : 45 ] ، فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت ، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا ، فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم ، هذا كله في طلوع الشمس وغروبها .
أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سببا لإقامة الفصول الأربعة : ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر ، ويقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن . وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد . وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار ، وتنحل فضول الأبدان ، ويجف وجه الأرض ، ويتهيأ للبناء والعمارات . وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلا قليلا إلى الشتاء ، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت .
وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها ، فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع ، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظا من شعاع الشمس ، وأيضا كأن الله تعالى يقول : لو وقفت في جانب الشرق والغني قد رفع بناءه على كوة الفقير ، فكان لا يصل النور إلى الفقير ، لكنه تعالى يقول : إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه .
وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء ، فنقول : لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصا ببقعة واحدة ، فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال ، وكانت القوة هناك لكيفية واحدة ، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية ، وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى
[ ص: 100 ] وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة ، فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة ، وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق ، وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ، ولو لم يكن عودات متتالية وكانت الكواكب تتحرك بطيئا لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الإفراط ، وكان يعرض قريبا مما لم يكن ميل ، ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت ، فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ، ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته ، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية .
هذا ، أما القمر ، وهو المسمى بآية الليل : فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة ، وجعل طلوعه في وقت مصلحة ، وغروبه في وقت آخر مصلحة ، أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو ، ولولا الظلام لأدركه العدو ، وهو المراد من قول المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر . ومن الحكايات : أن أعرابيا نام عن جمله ليلا ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال : إن الله صورك ونورك ، وعلى البروج دورك ، فإذا شاء نورك ، وإذا شاء كورك ، فلا أعلم مزيدا أسأله لك ، ولئن أهديت إلي سرورا لقد أهدى الله إليك نورا ، ثم أنشأ يقول :
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت : لا زلت مرفوعا ، فأنت كذا أو قلت : زانك ربي ، فهو قد فعلا
ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يقرب الأجل ويفضح السارق ويدرك الهارب ويهتك العاشق ويبلي الكتان ويهرم الشبان وينسي ذكر الأحباب ويقرب الدين ويدني الحين .
وكان فيهم أيضا من
يفضل القمر على الشمس من وجوه :
أحدها : أن القمر مذكر ، والشمس مؤنث ، لكن المتنبي طعن فيه بقوله :
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وثانيها : أنهم قالوا : القمران ، فجعلوا الشمس تابعة للقمر .
ومنهم من
فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله : (
الشمس والقمر بحسبان ) [ الرحمن : 5 ] ، (
والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ) [ الشمس : 1 - 2 ] ، إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله : (
فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) [ التغابن : 2 ] ، وقال : (
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ) [ الحشر : 20 ] ، وقال : (
خلق الموت والحياة ) [ الملك : 2 ] ، وقال : (
إن مع العسر يسرا ) [ الشرح : 6 ] ، وقال : (
فمنهم ظالم ) [ فاطر : 32 ] ، الآية .
أما النجوم : ففيها منافع :
المنفعة الأولى : كونها رجوما للشياطين ، والثانية : معرفة القبلة بها ، والثالثة : أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر ، قال تعالى : (
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) [ الأنعام : 97 ] .
ثم النجوم على ثلاثة أقسام : غاربة لا تطلع ، كالكواكب الجنوبية ، وطالعة لا تغرب ، كالشمالية ، ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى ، وأيضا منها ثوابت ومنها سيارات ومنها شرقية ومنها غربية ، والكلام فيها طويل . أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد :
[ ص: 101 ] فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح
قال تعالى : (
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) [ الجن : 26 ] ، وقال : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : 85 ] ، وقال : (
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) [ هود : 31 ] ، وقال : (
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) [ الكهف : 51 ] ، فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم ، والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك ، قال قائلهم :
وأعرف ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال
لبيد :
فوالله ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع