(
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون )
قوله تعالى : (
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون )
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي
يوسف نكس إخوته رءوسهم وقالوا : هذه الواقعة عجيبة أن
راحيل ولدت ولدين لصين ، ثم قالوا : يا بني
راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم ! فقال
بنيامين : ما أكثر البلاء علينا منكم ! ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة ، ثم تقولون لي هذا الكلام ، قالوا له : فكيف خرج الصواع من رحلك ؟ فقال : وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم .
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك : إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضا سارقا ، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة ؛ لأنهما من أم أخرى ، واختلفوا في
السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال :
الأول :
[ ص: 147 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : كان جده أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها ، فلعله يترك عبادة الأوثان ، ففعل ذلك ، فهذا هو السرقة .
والثاني : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء ، وقيل : سرق عناقا من أبيه ودفعه إلى المسكين ، وقيل : دجاجة .
والثالث : أن عمته كانت تحبه حبا شديدا ، فأرادت أن تمسكه عند نفسها ، وكان قد بقي عندها منطقة
لإسحاق عليه السلام ، وكانوا يتبركون بها ، فشدتها على وسط
يوسف ، ثم قالت بأنه سرقها ، وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق ، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها .
والرابع : أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على
يوسف بعد تلك الوقائع ، وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة ، وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل البتة .
ثم قال تعالى : (
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ) واختلفوا في أن الضمير في قوله : (
فأسرها يوسف ) إلى أي شيء يعود على قولين :
قال
الزجاج : فأسرها إضمار على شريطة التفسير ، تفسيره أنتم شر مكانا وإنما أنث لأن قوله : (
أنتم شر مكانا ) جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله : (
أنتم شر مكانا ) وفي قراءة
ابن مسعود ( فأسر ) بالتذكير يريد القول أو الكلام ، وطعن
أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على
الزجاج من وجهين :
الوجه الأول : قال : الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين :
أحدهما : أن يفسر بمفرد كقولنا : نعم رجلا زيد ، ففي نعم ضمير فاعلها ، ورجلا تفسير لذلك الفاعل المضمر .
والآخر أن يفسر بجملة ، وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله : (
فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) ( الأنبياء : 97 ) و (
قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) والمعنى : القصة شاخصة أبصار الذين كفروا ، والأمر الله أحد . ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضا نحو ( إن ) كقوله : (
إنه من يأت ربه مجرما ) ( طه : 74 ) (
فإنها لا تعمى الأبصار ) ( الحج : 46 ) .
إذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار ، ولا يكون خارجا عن تلك الجملة ولا مباينا لها ، وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار ، فوجب أن لا يحسن .
والثاني : أنه تعالى قال : (
أنتم شر مكانا ) وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام ، ولو قلنا : إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله إنه قال ذلك كذبا .
واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه :
أما الأول : فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث .
وأما الثاني : فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية ، وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال .
والوجه الثاني : وهو أن الضمير في قوله : (
فأسرها ) عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا : (
إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ) فأسر
يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ، ويجوز أيضا أن يكون إضمارا للمقالة .
والمعنى : أسر
يوسف مقالتهم ، والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم ، يعني أسر
يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة ، ولم يبين لهم
[ ص: 148 ] أنها كيف وقعت ، وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن .
روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : عوقب
يوسف عليه السلام ثلاث مرات : لأجل همه بها عوقب بالحبس ، وبقوله : (
اذكرني عند ربك ) ( يوسف : 42 ) عوقب بالحبس الطويل ، وبقوله : (
إنكم لسارقون ) ( يوسف : 70 ) عوقب بقولهم : (
فقد سرق أخ له من قبل ) ، ثم حكى تعالى عن
يوسف أنه قال : (
أنتم شر مكانا ) أي : أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ؛ فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب ، ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون ، ثم بعتموه بعشرين درهما ، ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة .
ثم قال تعالى : (
والله أعلم بما تصفون ) يريد أن سرقة
يوسف كانت رضا لله ، وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه ، والمعنى : والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا .