(
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون )
قوله تعالى : (
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على
صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الله مبتدأ والذي رفع السماوات خبره بدليل قوله : (
وهو الذي مد الأرض ) ( الرعد : 3 ) .
ويجوز أن يكون الذي رفع السماوات صفة ، وقوله : (
يدبر الأمر يفصل الآيات ) خبرا بعد خبر ، وقال
الواحدي : العمد : الأساطين ، وهو جمع عماد ، يقال : عماد وعمد ، مثل إهاب وأهب ، وقال
الفراء : العمد والعمد جمع العمود ، مثل أديم وأدم وأدم ، وقضيم وقضم وقضم ، والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ، ومنه يقال : فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السماوات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات ، أما
الاستدلال بأحوال السماوات بغير عمد ترونها ، فالمعنى : أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين :
الأول : أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحيز .
والثاني : أن الخلاء لا نهاية له ، والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ، ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة ؛ فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمرا واجبا لذاته ، بل لا بد من مخصص ومرجح ، ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها ، وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له ، وهو محال فثبت أن يقال : الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك .
فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ، ويدل أيضا على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز ؛ لأنه لو كان حاصلا في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية ؛ فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته ، فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص ، وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث ، وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ، فثبت أنه لو كان حاصلا في الحيز المعين لكان حادثا ، وذلك محال ، فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، وأيضا كل ما سماك فهو سماء ، فلو كان تعالى موجودا في جهة فوق جهة لكان من جملة السماوات ، فدخل تحت قوله : (
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها )
[ ص: 186 ] فكل ما كان مختصا بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية ، فوجب أن يكون الإله منزها عن جهة فوق .
أما قوله : (
ترونها ) ففيه أقوال :
الأول : أنه كلام مستأنف والمعنى : رفع السماوات بغير عمد . ثم قال : (
ترونها ) أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد .
الثاني : قال
الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره : رفع السماوات ترونها بغير عمد .
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز .
والثالث : أن قوله : (
ترونها ) صفة للعمد ، والمعنى : بغير عمد مرئية ، أي للسموات عمد ولكنا لا نراها ، قالوا : ولها عمد على
جبل قاف ، وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ، ولكنكم لا ترونها .
وهذا التأويل في غاية السقوط ؛ لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ، ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة ؛ لأنه يقال : إن السماوات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله ؟ وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل ، وهو أن العماد ما يعتمد عليه ، وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى ، وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى ، فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها ، أي : لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي ، وأنهم لا يرون ذلك التدبير ، ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك .
وأما قوله : (
ثم استوى على العرش ) فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقرا على العرش ؛ لأن المقصود من هذه الآية ذكر
ما يدل على وجود الصانع ، ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهدا معلوما ، وأن أحدا ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه ؟ وأيضا بتقدير أن يشاهد كونه مستقرا على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله ، بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز ، وأيضا فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة ، وذلك يوجب التغير .
وأيضا الاستواء ضد الاعوجاج ، فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجا مضطربا ، ثم صار مستويا ، وكل ذلك على الله محال ، فثبت أن المراد
استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ ، يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه .
وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر : فهو قوله سبحانه وتعالى : (
وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) .
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة :
النوع الأول : قوله : (
وسخر الشمس والقمر ) وحاصله يرجع إلى
الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام ، وذلك لأن الأجسام متماثلة ، فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص .
وأيضا أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطء والسرعة ، فلا بد أيضا من مخصص لا سيما عند من يقول : الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات ، وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز ، وتسكن في البعض ، فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضا من مرجح .
الوجه الثالث : وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر .
[ ص: 187 ]
والوجه الرابع : أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب ، وهذا أيضا لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة .
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : (
كل يجري لأجل مسمى ) وفيه قولان :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل ، وذلك يتم في ستة أشهر ، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى ، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا ، فالمراد بقوله : (
كل يجري لأجل مسمى ) هذا .
وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك .
والقول الثاني : أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة ، وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات ، وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله : (
إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت ) ( التكوير : 1 ، 2 )
إذا السماء انشقت ) ( الانشقاق : 1 )
إذا السماء انفطرت ) ( الانفطار : 1 )
وجمع الشمس والقمر ) ( القيامة : 9 ) وهو كقوله سبحانه وتعالى : (
ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ( الأنعام : 2 ) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : (
يدبر الأمر ) وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعثة الرسل ، وتكليف العباد ، وفيه دليل عجيب على
كمال القدرة والرحمة ، وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى .
والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ، ليس إلا من الله تعالى ، ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى ، فإنه لا يشغله شأن عن شأن ، أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، فلا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على
أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات .
ثم قال : (
يفصل الآيات ) وفيه قولان :
الأول : أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته .
والثاني : أن
الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان :
أحدهما : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب ، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره .
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموت بعد الحياة ، والفقر بعد الغنى ، والهرم بعد الصحة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل الذكي في أشد الأحوال ، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة .
وقوله : (
يفصل الآيات ) إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل .
ثم قال : (
لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضا تدل على
صحة القول بالحشر والنشر ؛ لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى .
يروى أن رجلا قال
nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه : إنه
[ ص: 188 ] تعالى
كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة ؟ فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة .
وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى ، وقد مر تقريره في هذا الكتاب مرارا وأطوارا .