(
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .
قوله تعالى : (
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه
لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية ، والحركات الكوكبية ، وتقريره من وجهين :
الأول : أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة ، فبعضها تكون سبخة ، وبعضها تكون رخوة ، وبعضها تكون صلبة ، وبعضها تكون منبتة ، وبعضها تكون حجرية أو رملية ، وبعضها يكون طينا لزجا ، ثم إنها متجاورة ، وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية ، فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
والثاني : أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد ، فيكون تأثير الشمس فيها متساويا ، ثم إن تلك
الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية ، حتى إنك قد تأخذ عنقودا من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة ، فإنها بقيت حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطباع والأفلاك للكل على السوية ، بل نقول : هاهنا ما هو أعجب منه ، وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة ، فيستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدل دلالة
[ ص: 7 ] قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار ، لا بسبب الاتصالات الفلكية ، وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى : (
يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها.
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر ، وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع ، فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء ، وعندها يتم الدليل ، ولا يبقى بعده للفكر مقام البتة ، فلهذا السبب قال هاهنا : (
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال : إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر البتة ، وذلك يقدح في كمال العقل ؛ لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علما ضروريا كان عدم حصول هذا العلم قادحا في كمال العقل ، فلهذا قال : (
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) وقال في الآية المتقدمة : (
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ، ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سببا للفوز بالرحمة والغفران.
المسألة الثانية : قوله : (
وفي الأرض قطع متجاورات ) قال
أبو بكر الأصم : أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى حرة ، وأخرى رملة ، وأخرى تكون حصباء ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكون سوداء ، وبالجملة
فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم ، وفي بعض المصاحف [قطعا متجاورات] والتقدير : وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعا متجاورات ، وأما قوله : (
وجنات من أعناب وزرع ونخيل ) فنقول : الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار ، والدليل عليه قوله تعالى : (
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ) [الكهف : 32] قرأ
ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن
عاصم : (
وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ) كلها بالرفع عطفا على قوله [وجنات] ، والباقون بالجر عطفا على الأعناب ، وقرأ
حفص عن
عاصم في رواية
القواس : [صنوان] بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان ، والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ، ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء ، فإذا كثرت فهو الصني ، والصني بكسر الصاد وفتحها ، والصنو أن يكون الأصل واحدا وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو ، وذكر
ثعلب عن
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : الصنو المثل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012993ألا إن عم الرجل صنو أبيه أي مثله.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى : إن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى : أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة ، وقد لا تكون كذلك .
ثم قال تعالى : (
يسقى بماء واحد ) قرأ
عاصم وابن عامر [يسقى] بالياء على تقدير : يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث ، والباقون بالتاء لقوله : [جنات] ، قال
أبو عمرو : ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى : (
ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قرأ
حمزة والكسائي [يفضل] بالياء عطفا على قوله : [ يدبر ، ويفصل ، ويغشي ] والباقون بالنون على تقدير : ونحن نفضل ، و (
في الأكل ) قولان : حكاهما
الواحدي ؛ حكى عن
الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل ، وأقول : هذا أولى لقوله تعالى في صفة
[ ص: 8 ] الجنة : (
أكلها دائم ) [الرعد : 35] وهو عام في جميع المطعومات ،
وابن كثير ونافع يقرءان "الأكل" ساكنة الكاف في جميع القرآن ، والباقون بضم الكاف ، وهما لغتان.