(
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ) .
قوله تعالى : (
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ) .
[ ص: 10 ] اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر ، وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له : فجئنا بهذا العذاب ؛ وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه ، وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له ، فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم
يستعجلون الرسول بالسيئة قبل الحسنة ، والمراد بالسيئة هاهنا : نزول العذاب عليهم ، كما قال الله تعالى عنهم في قوله : (
فأمطر علينا حجارة ) [الأنفال : 32] وفي قوله : (
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [الإسراء : 90] إلى قوله : (
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) [الإسراء : 92] وإنما قالوا ذلك طعنا منهم فيما ذكره الرسول ، وكان صلى الله عليه وسلم يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا ، فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر ، فهذا هو المراد بقوله : (
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) ومنهم من فسر الحسنة هاهنا بالإمهال والتأخير ، وإنما سموا العذاب سيئة ؛ لأنه يسوءهم ويؤذيهم.
أما قوله : (
وقد خلت من قبلهم المثلات ) فاعلم أن العرب يقولون : العقوبة مثلة ومثلة مثل صدقة وصدقة ، فالأولى لغة
الحجاز ، والثانية لغة تميم ، فمن قال : مثلة فجمعه مثلات ، ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان الثاء. هكذا حكاه
الفراء والزجاج ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري رحمه الله : المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئا ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلان بفلان إذا قبح صورته ؛ إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه ، فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي اللازم مثلة.
قال
الواحدي : وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابها للمعاقب ومماثلا له ، لا جرم سمي بهذا الاسم. قال صاحب "الكشاف" : قرئ [المثلات] بضمتين لإتباع الفاء العين ، [والمثلات] بفتح الميم وسكون الثاء ، كما يقال : السمرة ، والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين ، والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات.
إذا عرفت هذا فنقول : معنى الآية : ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها ، وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتبارا بحال من سلف.
أما قوله : (
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على
أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، ووجه الاستدلال به أن قوله : (
لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال : رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل ، فهذا يقتضي كونه تعالى غافرا للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائبا ، فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة . ثم نقول : ترك العمل بهذا الدليل في حق أهل الكفر ، فوجب أن يبقى معمولا به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب ، أو نقول : إنه تعالى لم يقتصر على قوله : (
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) بل ذكر معه قوله : (
وإن ربك لشديد العقاب ) فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار .
[ ص: 11 ] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وإنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالا لهم في الإتيان بالتوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة
تأخير العقاب إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا
تعجيل العقاب ، فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولا على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : وإن ربك لذو مغفرة ، أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالا لهم في الإتيان بالتوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة ، وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب.
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة ، وإلا لوجب أن يقال : الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة ، وعن الثاني : أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل ، أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه ؛ وعندكم يجب غفران الصغائر. وعن الثالث : أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم ، وبينا أن
حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة ، فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه.