(
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) .
قوله تعالى : (
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب )
اعلم
أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلا آخر ، فقال : (
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها ، ومن حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ، ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل ، سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة ، ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار ، وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت ، فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث ، ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص ، فالحاصل : أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد ، وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء ، والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد ، فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به ، فكذا هاهنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن ، والأودية قلوب العباد وشبه القلوب
[ ص: 29 ] بالأودية ؛ لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن ، كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء ، وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه ، فكذا هاهنا
كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه ، وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث ، ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة ، كذا هاهنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ، ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة ، فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به ، وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه.
المسألة الأولى : في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث :
البحث الأول : الأودية جمع واد وفي الوادي قولان :
القول الأول : أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل ، هذا قول عامة أهل اللغة .
والقول الثاني : قال
السهروردي : يسمى الماء واديا إذا سال ، قال : ومنه سمي الودي وديا لخروجه وسيلانه ، وعلى هذا القول ، فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل ، والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله : (
فسالت أودية ) مجازا فكان التقدير : سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البحث الثاني : قال
أبو علي الفارسي رحمه الله : الأودية جمع واد ، ولا نعلم فاعلا جمع على أفعلة ، قال : ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم ، وشاهد وشهيد ، وناصر ونصير ، ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب ، وطائر وأطيار ، ووزن فعيل يجمع على أفعلة ، كجريب وأجربة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل ، فيقال : واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل ، فيقال : يتيم وأيتام وشريف وأشراف ، هذا ما قاله
أبو علي الفارسي رحمه الله ، وقال غيره : نظير واد وأودية ، ناد وأندية للمجالس.
البحث الثالث : إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير ؛ لأن
المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع ، فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض. أما قوله تعالى : (
بقدرها ) ففيه بحثان :
البحث الأول : قال
الواحدي : القدر والقدر مبلغ الشيء ، يقال : كم قدر هذه الدراهم ، وكم قدرها ومقدارها؟ أي : كم تبلغ في الوزن ، فما يكون مساويا لها في الوزن فهو قدرها.
البحث الثاني : (
فسالت أودية بقدرها ) أي من الماء ، فإن صغر الوادي قل الماء ، وإن اتسع الوادي كثر الماء.
أما قوله : (
فاحتمل السيل زبدا رابيا ) ففيه بحثان :
البحث الأول : قال
الفراء : يقال أزبد الوادي إزبادا ، والزبد الاسم ، وقوله : (
رابيا ) قال
الزجاج : طافيا عاليا فوق الماء. وقال غيره : زائدا بسبب انتفاخه ، يقال : ربا يربو إذا زاد.
[ ص: 30 ] أما قوله تعالى : (
ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) فاعلم
أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء ، أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار ، وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ
حمزة والكسائي وحفص عن
عاصم (
يوقدون ) بالياء ، واختاره
أبو عبيدة لقوله : (
ينفع الناس ) وأيضا فليس هاهنا مخاطب ، والباقون بالتاء على الخطاب ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان :
الأول : أنه خطاب للمذكورين في قوله : (
قل أفاتخذتم من دونه أولياء ) . [الرعد : 16] .
والثاني : أنه يجوز أن يكون خطابا عاما يراد به الكافة ، كأنه قال : ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون.
البحث الثاني : الإيقاد على الشيء على قسمين :
أحدهما : أن لا يكون ذلك الشيء في النار ، وهو كقوله تعالى : (
فأوقد لي ياهامان على الطين ) [القصص : 38] .
والثاني : أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار ، فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار ، فلهذا السبب قال هاهنا : (
ومما يوقدون عليه في النار ) .
البحث الثالث : في قوله : (
ابتغاء حلية ) قال أهل المعاني : الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة ، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص ، والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها ، والمتاع كل ما يتمتع به وقوله : (
زبد مثله ) أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل.
ثم قال تعالى : (
كذلك يضرب الله الحق والباطل ) والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل ، ثم قال : (
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس ) قال
الفراء : الجفاء الرمي والاطراح ، يقال : جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه ، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض ، وموضع "جفاء" نصب على الحال ، والمعنى : أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ، ومن الأجساد السبعة ، فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات ، وفي قراءة
رؤبة بن العجاج جفالا ، وعن
أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة
رؤبة ؛ لأنه كان يأكل الفار.