المسألة الرابعة : أقول هذه الآية تدل على
أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال : (
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) وعد بغفران بعض الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة ، فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقا من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ، فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عدا الكفر من الذنوب .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال كلمة " من " صلة على ما قاله
أبو عبيدة أو نقول : المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله
الواحدي ، أو نقول : المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله
الواحدي أيضا أو نقول : المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب " الكشاف " . أو نقول : المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله
الأصم . أو نقول : المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي ؟ فنقول : هذه الوجوه بأسرها ضعيفة : أما قوله : إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد ، والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة ، فأما قول
الواحدي : المراد من كلمة " من " ههنا هو الكل فهو عين ما قاله
أبو عبيدة ؛ لأن حاصله أن قوله : (
ليغفر لكم من ذنوبكم ) هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن
أبي عبيدة ، وحكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه إنكاره ، وأما
[ ص: 75 ] قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة " من " تفيد الإبدال ، وأما قول صاحب " الكشاف " : المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات ؛ لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسدا ، وأما قول
الأصم فقد سبق إبطاله ، وأما قول القاضي فجوابه : أن
الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013015التائب من الذنب كمن لا ذنب له " فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا
أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر ، وأما الكفر فهو أيضا من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة ، وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى ، هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال . والله أعلم بحقيقة الحال .
النوع الثاني : مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله : (
ويؤخركم إلى أجل مسمى ) وفيه وجهان :
الأول : المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت .
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : (
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) [ الأعراف : 34 ] فكيف قال ههنا : (
ويؤخركم إلى أجل مسمى ) ؟
قلنا : قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله : (
ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) [ الأنعام : 2 ] ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا : (
إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) .
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه :
فالشبهة الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد ، وهو أن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله مطلعا على الغيب مخالطا لزمرة الملائكة والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال ، أيضا كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم : (
إن أنتم إلا بشر مثلنا ) .
والشبهة الثانية :
التمسك بطريقة التقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان . قالوا : ويبعد أن يقال : إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين ، وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه ، والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاما آخر ، وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له : إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين ، أما المناظرة مع الميت فسهلة ، فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضا ذكروه ، وهذه الشبهة هي المراد من قوله : (
تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) .
والشبهة الثالثة : أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلا ، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق ، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة ، وأنها ليست من باب
[ ص: 76 ] المعجزات الخارجة عن قدرة البشر ، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله : (
فأتونا بسلطان مبين ) فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع . والله أعلم .