المسألة السابعة : في المراد من الشهداء وجهان :
الأول : المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان ، فكأنه قيل لهم : إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر ، فقد دفعتم في منازعة
محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها ، فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر ، فيكون في الكلام محاجة من وجهين ، أحدهما في إبطال كونها آلهة ، والثاني : في إبطال ما أنكروه من
إعجاز القرآن وأنه من قبله .
الثاني : المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر
محمد - عليه السلام - والمعنى : وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر . فإن قيل : هل يمكن
[ ص: 110 ] حمل اللفظ عليهما معا ؟ وبتقدير التعذر فأيهما أولى ؟ قلنا : أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، فيمكن جعله مجازا عن المعين والناصر ، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصارا لهم وأعوانا ، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه . وأما الثاني فنقول : الأولى حمله على الأكابر ، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهرا إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد ، فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة ، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم ، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان ، أو يقال : المراد : وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم ، والإضمار خلاف الأصل ، أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام ؛ لأنه يصير كأنه قال : وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار . فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله : (
شهداءكم ) ، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز .
المسألة الثامنة : أما [ دون ] ، فهو أدنى مكان من الشيء ، ومنه الشيء الدون ، وهو الحقير الدني ، ودون الكتب : إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ، ويقال : هذا دون ذاك : إذا كان أحط منه قليلا ، ودونك هذا ، أصله : خذه من دونك ؛ أي من أدنى مكان منك ، فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال ، فقيل : زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حدا إلى حد ، قال الله تعالى : (
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) [ آل عمران : 28 ] ، أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين .
فإن قيل : فما متعلق (من دون الله) قلنا : فيه وجهان :
أحدهما : أن متعلقه " شهداءكم " وهذا فيه احتمالان : الأول : المعنى : ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم ، والثاني : ادعوا شهداءكم من دون الله ، أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة .
وثانيهما : أن متعلقه هو الدعاء ، والمعنى : ادعوا من دون الله شهداءكم ، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق ، كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم ، وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم : الله يشهد إنا لصادقون .