النوع الثاني : مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله : (
ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) وفيه سؤالات :
السؤال الأول : علام عطف (
ويسقى ) .
الجواب : على محذوف تقديره : (
من ورائه جهنم ) يلقى فيها (
ويسقى من ماء صديد ) .
السؤال الثاني :
عذاب أهل النار من وجوه كثيرة ، فلم خص هذه الحالة بالذكر ؟
الجواب : يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله : (
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) .
السؤال الثالث : ما وجه قوله : (
من ماء صديد ) .
[ ص: 82 ] الجواب : أنه عطف بيان والتقدير : أنه لما قال : (
ويسقى من ماء ) فكأنه قيل : وما ذلك الماء ؟ فقال : (
صديد ) والصديد ما يسيل من جلود أهل النار . وقيل : التقدير " ويسقى من ماء كالصديد " ، وذلك بأن يخلق الله تعالى
في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة ، وهو أيضا يكون في نفسه صديدا ؛ لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله : (
وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ] . (
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) [ الكهف : 29 ] .
السؤال الرابع : ما معنى (
يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) ؟
الجواب : التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ، ويقال : ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا وأساغه إساغة . واعلم أن [ يكاد ] فيه قولان :
القول الأول : أن نفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فقوله : (
ولا يكاد يسيغه ) أي ويسيغه بعد إبطاء ؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقوم ، أي قمت بعد إبطاء قال تعالى : (
فذبحوها وما كادوا يفعلون ) [ البقرة : 71 ] يعني فعلوا بعد إبطاء ، والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى : (
يصهر به ما في بطونهم والجلود ) [ الحج : 20 ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة ، وأيضا فإن قوله : (
يتجرعه ) يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده : إنه يسيغه البتة ؟
والقول الثاني : أن كاد للمقاربة فقوله : (
ولا يكاد ) لنفي المقاربة يعني : ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة ؟ كقوله تعالى : (
لم يكد يراها ) [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة ، فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه ؟
قلنا عنه جوابان :
أحدهما : أن المعنى : لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع .
الثاني : أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر ، إلا أن ذلك ليس بإساغة ؛ لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب ، والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه ، أي لا يستطيبه ولا يشربه شربا بمرة واحدة ، وعلى هذين الوجه ين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة . والله أعلم .
النوع الثالث : مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله : (
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) [ إبراهيم : 17 ] والمعنى : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ، ومع ذلك فإنه لا يموت ، وقيل من كل جزء من أجزاء جسده .
النوع الرابع : قوله : (
ومن ورائه عذاب غليظ ) وفيه وجهان :
الأول : أن المراد من
العذاب الغليظ كونه دائما غير منقطع .
الثاني : أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله . قال
المفضل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . والله أعلم .