المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن
الشيطان الأصلي هو النفس ، وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير البتة ، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس .
فإن قال قائل : بينوا لنا
حقيقة الوسوسة .
قلنا : الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيبا لازما طبيعيا ، وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك ، والإقدام والإحجام ، فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل ، وذلك الميل هو الإرادة الجازمة ، والقصد الجازم . ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر ، فإن لم يحصل فيه هذا الاعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك ، فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائما له أو بكونه منافرا له أو بكونه غير ملائم ولا منافر ، فإن حصل الشعور بكونه ملائما له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل
[ ص: 89 ] وإن حصل الشعور بكونه منافرا له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك ، وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده ، بل بقي الإنسان كما كان ، وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل .
إذا عرفت هذا فنقول : صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه ، وصدور الميل عن تصور كونه خيرا أو تصور كونه شرا أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل ، وحصول كونه خيرا أو تصور كونه شرا عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه ، فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئا بأن يلقي إليه حديثه ، مثل أن الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره ، فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام ، وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال : (
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ) يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة ، فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر البتة .