1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة إبراهيم
  4. قوله تعالى وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم
صفحة جزء
بقي في هذا المقام سؤالان :

السؤال الأول : كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه ؟

والجواب : للناس في الملائكة والشياطين قولان :

القول الأول : أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة : المتحيز ، والحال في المتحيز ، والذي لا يكون متحيزا ولا حالا فيه ، وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل البتة على فساد القول به ، بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به ، وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين .

إذا عرفت هذا فنقول : فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسما يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر ، والنفس الإنسانية أيضا كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقي شيء من تلك الأرواح أنواعا من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية ، وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالا ثانيا ، وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع ، فهي طوائف ، وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها ، فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر ، وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية ، وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة ، وعدم المبالاة بأمر من الأمور ، وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية ، وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة ، وكالفروع المتفرعة عليها ، وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها ، وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة . والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ، ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعبا كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضا على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها ، ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام . وإن كانت [ ص: 90 ] شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة ، وذكر بعض العلماء أيضا فيه احتمالا ثالثا ، وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها ، فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة ، حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدنا لتلك النفس المفارقة ، فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن ، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ، ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاما ، وإن كان في باب الشر كان وسوسة ، فهذه وجوه محتملة تفريعا على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز ، والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم .

وأما القول الثاني : وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساما فنقول : إن على هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة ، بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة ، والله سبحانه ركبها تركيبا عجيبا وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ، ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ، ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف ، ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن ، فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن ؟ أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم ، وماء الورد يسري في ورق الورد ، ودهن السمسم يجري في جسم السمسم ؟ فكذا ههنا ، فظهر بما قررنا : أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل ، وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة ، ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول : الأحق والأولى أن يقال : الملائكة - على هذا القول - مخلوقون من النور ، والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب ، كما قال الله تعالى : ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) [ الحجر : 27 ] وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة ، فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟

السؤال الثاني : لم قال الشيطان : ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) وهو أيضا ملوم بسبب إقدامه على تلك الوسوسة الباطلة ؟

والجواب : أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه ، لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم . ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال : ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : بمغيثكم ولا منقذكم ، قال ابن الأعرابي : الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث . يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه وأصرخته أغثته .

المسألة الثانية : قرأ حمزة : " بمصرخي " بكسر الياء . قال الواحدي : وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب . قال الفراء : ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله ( بمصرخي ) خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ ؛ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك ، قال : ومما نرى [ ص: 91 ] أنهم وهموا فيه قوله : ( نوله ما تولى ونصله جهنم ) [ النساء : 115 ] بجزم الهاء . ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ ؛ لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه ، ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن . والله أعلم .

ثم قال تعالى حكاية عنه : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : " ما " في قوله : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) فيه قولان :

الأول : أنها مصدرية والمعنى : كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة ، والمعنى : أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكا لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به ، أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك .

والثاني - وهو قول الفراء - : أن المعنى أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، والمعنى : أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله : " ما " في هذا الموضع " من " والقول هو الأول ؛ لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول ، ويمكن أن يقال أيضا : الكلام منتظم على التفسير الثاني ، والتقدير كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر ، وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل ، فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة ، وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام .

أما قوله : ( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) فالأظهر أنه كلام الله عز وجل ، وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام ، ولا يبعد أيضا أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية