البحث الخامس : قال تعالى : (
فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقا لنا ، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين ؛ لأن
الإحسان لا يكون إحسانا إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه .
البحث السادس : قال صاحب " الكشاف " : قوله : (
من الثمرات ) بيان للرزق ، أي أخرج به رزقا هو ثمرات ، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق ، والتقدير : ورزق من الثمرات رزقا لكم .
[ ص: 101 ] فأما الحجة الرابعة : وهي
قوله : ( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) ونظيره قوله تعالى : (
ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) [ الشورى : 32 ] ففيها مباحث :
البحث الأول : أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر ، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية . فإن قيل : ما معنى (
وسخر لكم الفلك ) مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد ؟
قلنا : أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال ، وأما على مذهب
المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال : لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ، ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذونه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ، ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن ؛ فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه .
البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره ؛ لأن
الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيما لشأنه ، ومنهم من حمله على ظاهر قوله : (
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه .
البحث الثالث : الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز ، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : (
وسخر لكم الأنهار ) واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات ، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب ، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار .
الحجة السادسة والسابعة : قوله : (
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) .
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم ، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله : (
وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ) [ نوح : 16 ] ومنها قوله : (
الشمس والقمر بحسبان ) [ الرحمن : 5 ] ومنها قوله : (
وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) [ الفرقان : 61 ] ومنها قوله : (
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) [ يونس : 5 ] .
وقوله : (
دائبين ) معنى الدءوب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال : دأب يدأب دأبا ودؤوبا وقد ذكرنا هذا في قوله : (
قال تزرعون سبع سنين دأبا ) [ يوسف : 47 ] قال المفسرون : قوله : (
دائبين ) معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان ، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية ، وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب .
[ ص: 102 ] الحجة الثامنة والتاسعة :
قوله : ( وسخر لكم الشمس والقمر ) .
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى : (
وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) [ النبأ : 10 ، 11 ] وقوله : (
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) قال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان ، والأعراض لا تسخر .
والحجة العاشرة : قوله : (
وآتاكم من كل ما سألتموه ) ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها ، بل
أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال : (
وآتاكم من كل ما سألتموه ) والمفعول محذوف تقديره : من كل مسئول شيئا ، وقرئ : " من كل " بالتنوين . و (
ما سألتموه ) نفي ، ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، ويجوز أن تكون " ما " موصولة والتقدير : آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) قال
الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم الله عليه ، ينعم إنعاما ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله : أنفقت عليه إنفاقا ونفقة بمعنى واحد ، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ، ومعنى قوله : (
لا تحصوها ) أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها .
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع ، فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين .
المثال الأول : أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان : منها دماغية ، ومنها نخاعية . أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ، ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة ، وكل واحد من تلك الشعب أيضا إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ، ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جدا ، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة ، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن لله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه ، وعرف قطعا أنه لا سبيل له إلى الوقوف عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة ، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له . وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه ، فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ، ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان ، وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل ، فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين .
المثال الثاني : أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما
[ ص: 103 ] الأمور التي قبلها : فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب ، لأن الحنطة لا بد منها ، وأنها لا تنبت إلا بمعونة الفصول الأربعة ، وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ، ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك ، واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات ، وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز ، وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ، ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات ، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة ، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق . فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة .
وأما النظر فيما بعد حصولها : فتأمل في تركيب بدن الحيوان ، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة ، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية ، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور ، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث ، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، ثم إنه تعالى قال : (
إن الإنسان لظلوم كفار ) قيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها . وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع ، والمراد من الإنسان ههنا : الجنس ؛ يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه ، وههنا بحثان :
البحث الأول : أن
الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة ، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها ، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة ، وأيضا أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي .
البحث الثاني : أنه تعالى قال في هذا الموضع : (
إن الإنسان لظلوم كفار ) وقال في سورة النحل : (
إن الله لغفور رحيم ) [ النحل : 18 ] ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما ، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء ، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة .