المطلوب الرابع : قوله : (
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ) .
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ، ذكر أنه لا يعلم
عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل ، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها ، فقال : (
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ) والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا ، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين
إسماعيل ، وما نعلن من البكاء ، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب ، وما نعلن : يريد ما جرى بينه وبين
هاجر حيث قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا ؟ فقال : إلى الله أكلكم ، قالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا نخشى .
ثم قال : (
وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) وفيه قولان :
أحدهما : أنه كلام الله عز وجل تصديقا
لإبراهيم عليه السلام كقوله : (
وكذلك يفعلون ) [ النمل : 34 ] .
والثاني : أنه من كلام
إبراهيم عليه السلام يعني :
وما يخفى على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان ، ولفظ " من " يفيد الاستغراق كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما .
ثم قال : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) وفيه مباحث :
البحث الأول : اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى
إبراهيم عليه السلام هذين الولدين - أعني
إسماعيل وإسحاق - على الكبر والشيخوخة ، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات ، فقيل :
لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد
إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة ، وقيل : ولد له
إسماعيل لأربع وستين سنة وولد
إسحاق لتسعين سنة ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : لم يولد
لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر قوله : (
على الكبر ) لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية
لإبراهيم .
فإن قيل : إن
إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن
إسماعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت ما ولد له
إسحاق ، فكيف يمكنه أن يقول : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) ؟
قلنا : قال القاضي : هذا الدليل يقتضي أن
إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء . ويمكن أيضا أن يقال : إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر
إسماعيل وظهور
إسحاق ، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه .
البحث الثاني : " على " في قوله : (
على الكبر ) بمعنى مع كقول الشاعر :
إني على ما ترين من كبري أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ، ومعناه : وهب لي في حال الكبر .
البحث الثالث : في المناسبة بين قوله : (
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )
[ ص: 110 ] وبين قوله : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب ، بل قال : (
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ) أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ، ثم قال : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) وذلك يدل ظاهرا على أنهما يبقيان بعد موته ، وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض ، وذلك يدل على أن
الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء ، قال عليه السلام حاكيا عن ربه أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013022 " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " . ثم قال : (
إن ربي لسميع الدعاء ) .
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال : (
إن ربي لسميع الدعاء ) أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح . وقوله : " سميع الدعاء " من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ، ومنه : سمع الله لمن حمده .