ثم قال تعالى : (
هذا بلاغ للناس ) أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس ، أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل : إن قوله " هذا " إشارة إلى كل القرآن ، وقيل : بل إشارة إلى كل هذه السورة ، وقيل : بل إشارة إلى المذكور من قوله : (
ولا تحسبن ) إلى قوله : (
سريع الحساب ) وأما قوله : (
ولينذروا به ) فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا : (
ولينذروا به ) أي بهذا البلاغ .
ثم قال : (
وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أن النفس الإنسانية لها شعبتان : القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ، ورئيس هذه المعارف والجلاء
معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله .
والشعبة الثانية : القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادئ لصدور الأفعال الكاملة عنها ، ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : (
وليعلموا أنما هو إله واحد ) إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية ، وقوله : (
وليذكر أولو الألباب ) إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة ، وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين .
المسألة الثانية : هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد
والإقبال على العمل الصالح ، والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل ، فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة .
[ ص: 119 ] المسألة الثالثة : قال القاضي : أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع وإن شاء عصى . أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى : (
لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) [ إبراهيم : 1 ] فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن
المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية ، وأما آخر السورة فلأن قوله : (
وليذكر أولو الألباب ) يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة ، وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية ، فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى . واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة .
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله ، لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب ، وإنما بعث الرسل لتذكير أولي الألباب ، فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولي الألباب لما كان الأمر كذلك .
قال المصنف رحمه الله تعالى ورضي عنه : تم تفسير هذه السورة يوم الجمعة في أواخر شعبان سنة إحدى وستمائة ، ختم بالخير والغفران في صحراء
بغداد ، ونسأل الله الخلاص من الغموم والأحزان ، والفوز بدرجات الجنان ، والخلاص من دركات النيران ، إنه الملك المنان ، الرحيم الديان ، بحمد الله وحسن توفيقه ، وصلاته وسلامه على خاتم النبيين
محمد وآله وسلم .