وقوله تعالى : (
وجعلنا لكم فيها معايش ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله : (
ومن لستم له برازقين ) فيه قولان :
القول الأول : أنه معطوف على محل لكم ، والتقدير : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين .
والقول الثاني : أنه عطف على قوله : (
معايش ) والتقدير : وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة :
الاحتمال الأول : أن كلمة "من" مختصة بالعقلاء ، فوجب أن يكون المراد من قوله : (
ومن لستم له برازقين ) العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد ، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد ، وذلك خطأ فإن
الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم ، والمملوك والمالك ; فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة ، وأعطى القوة الغاذية والهاضمة ، وإلا لم يحصل لأحد رزق .
والاحتمال الثاني : وهو قول
الكلبي قال : المراد بقوله : (
ومن لستم له برازقين ) الوحش والطير .
فإن قيل : كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل ؟
قلنا : الجواب عنه من وجهين :
الأول : أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء ، والدليل عليه قوله تعالى : (
والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) [النور : 45] .
والثاني : أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقا على الله حيث قال : (
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ) [هود : 6] فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة ، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ، ألا ترى أنه قال : (
ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [النمل : 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، وقال في الأصنام : (
فإنهم عدو لي ) [الشعراء : 77] وقال : (
كل في فلك يسبحون ) [الأنبياء : 33] فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة ، وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال ، واشتد الحر في عام من الأعوام فحكي عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعا رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها .
والاحتمال الثالث : أنا نحمل قوله : (
ومن لستم له برازقين ) على الإماء والعبيد ، وعلى الوحش والطير ، وإنما أطلق عليها صيغة من تغليبا لجانب العقلاء على غيرهم .
المسألة الثانية : قوله : (
ومن لستم له برازقين ) لا يجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور
[ ص: 138 ] في لكم ، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، لا يقال : أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى : (
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [الأحزاب : 7] .
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ : " تساءلون به والأرحام " بالخفض ، وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك . والله أعلم .