[ ص: 163 ] (
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ) .
قوله تعالى : (
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) .
هذه هي القصة الرابعة ، وهي
قصة صالح . قال المفسرون : الحجر اسم واد كان يسكنه
ثمود وقوله : (
المرسلين ) المراد منه
صالح وحده ، ولعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل وقوله : (
وآتيناهم آياتنا ) يريد الناقة ، وكان
في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة ، وعظم خلقها وظهور نتاجها عند خروجها ، وكثرة لبنها ، وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت
الناقة آية لصالح ; لأنها آيات رسولهم ، وقوله : (
فكانوا عنها معرضين ) يدل على أن
النظر والاستدلال واجب ، وأن التقليد مذموم وقوله : (
وكانوا ينحتون من الجبال ) قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف وقوله : (
آمنين ) يريد من عذاب الله ، وقال
الفراء : (
آمنين ) أن يقع سقفهم عليهم وقوله : (
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) أي : ما دفع عنهم الضر والبلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال ومن جمع تلك الأموال . والله أعلم .
قوله تعالى : (
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم )
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل :
الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم . فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة ، فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم ، وهذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول
المعتزلة ، قال
الجبائي : دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا حقا ، وبكون الحق لا يكون الباطل ; لأن كل ما فعل باطلا ، وأريد بفعله كون الباطل لا يكون حقا ولا يكون مخلوقا بالحق ، وفيه
بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه الله تعالى بين السماوات والأرض من الكفر والمعاصي باطل .
واعلم أن أصحابنا قالوا : هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع
أعمال العباد ; لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسماوات والأرض ولكل ما بينهما . ولا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو الله سبحانه ، وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه ، فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على
محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
وإن الساعة لآتية ) وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم ، فإنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف ، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ، ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال : (
فاصفح الصفح الجميل ) أي : فأعرض عنهم ، واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا
[ ص: 164 ] بحلم وإغضاء ، وقيل : هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد ; لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح ، فكيف يصير منسوخا .
ثم قال : (
إن ربك هو الخلاق العليم ) ومعناه : أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم ، وتفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك ، وإذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت ، ومع العلم بذلك التفاوت . أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة والإرادة . وأما على قول
المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة ، والله أعلم .