(
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) .
قوله تعالى : (
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) .
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته ، وهي المراد من قوله : (
أنه لا إله إلا أنا ) ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله : (
فاتقون ) روح الأرواح ، ومطلع السعادات ، ومنبع الخيرات والكرامات ، أتبعه بذكر
الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته .
واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات ، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات . أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات ، فهذه طرق ستة ، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة ، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال ، ثم هذا الطريق يقع على وجهين :
أحدهما : أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى ، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة ، فإنه تعالى قال : (
اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [البقرة : 21] فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلا على احتياجه إلى الخالق . ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات ، وإليه الإشارة بقوله : (
والذين من قبلكم ) [البقرة : 21] ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي قوله : (
الذي جعل لكم الأرض فراشا ) [ البقرة : 22] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء ، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله : (
والسماء بناء ) [البقرة : 22] ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض ، فقال : (
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) [البقرة : 22] .
الثاني من الدلائل القرآنية ; أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون ، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة ، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية ، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان ، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان ،
[ ص: 178 ] ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات ، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة ، وهذا الترتيب في غاية الحسن .
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول :
النوع الأول :
من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السماوات والأرض فقال : (
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [الأنعام : 1] أن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم ، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا ، فنقول : الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص ، وهذا المعنى حاصل في السماوات من وجوه :
الأول : أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه ، وكل ما كان متناهيا في الحجم والقدر ، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص أمرا جائزا ، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص ، وكل ما كان مفتقرا إلى الغير فهو محدث .
الثاني : وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة ; لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال .
إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل ، ثم حدثت أو يقال : إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت . وعلى التقديرين فلحركتها أول ، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير ، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له .
الثالث : أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه ، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس ، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمرا جائزا فيفتقر إلى المخصص والمقدر ، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام .
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السماوات والأرض قال بعده : (
تعالى عما يشركون ) والمراد أن القائلين بقدم السماوات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكا في كونه قديما أزليا فنزه نفسه عن ذلك ، وبين أنه لا قديم إلا هو ، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله : (
سبحانه وتعالى عما يشركون ) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا ; لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول : إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم ، والمقصود ههنا
إبطال قول من يقول : الأجسام قديمة ، والسماوات والأرض أزلية ، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم والله أعلم .