(
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون )
قوله تعالى : (
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون )
اعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها في المنافع الضرورية والحاجات الأصلية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في المنافع التي ليست بضرورية ، فقال : (
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :
قوله : ( والخيل والبغال والحمير ) عطف على الأنعام ، أي : وخلق الأنعام لكذا وكذا ، وخلق هذه الأشياء للركوب . وقوله : (
وزينة ) أي : وخلقها زينة ، ونظيره قوله تعالى : (
وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ) [فصلت : 12] المعنى : وحفظناها حفظا . قال
الزجاج : نصب قوله : (
وزينة ) على أنه مفعول له . والمعنى : وخلقها للزينة .
المسألة الثانية : احتج القائلون
بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية ، فقالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر ، وحيث لم يذكره الله تعالى علمنا أنه يحرم أكله ، ويمكن أيضا أن يقوى هذا الاستدلال من وجه آخر ، فيقال : إنه تعالى قال في صفة الأنعام : (
ومنها تأكلون ) وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام ، فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر ، ثم إنه تعالى بعد هذا الكلام ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر أنها مخلوقة للركوب ، فهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام وغير حاصلة في هذه الأشياء ، ويمكن الاستدلال بهذه الآية من وجه ثالث وهو أن قوله : (
لتركبوها ) يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، ولو حل أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حل أكلها أيضا مقصودا ، وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود ، بل يصير بعض المقصود .
وأجاب
الواحدي بجواب في غاية الحسن فقال : لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات لكان تحريم أكلها معلوما في
مكة لأجل أن هذه السورة مكية ، ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدثين أن
لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر باطلا ; لأن التحريم لما كان حاصلا قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم بهذه الشبهة فائدة ، وهذا جواب حسن متين .
المسألة الثالثة : القائلون بأن
أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والحكم ، احتجوا بظاهر هذه الآية فإنه يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لأجل المنفعة الفلانية ، ونظيره قوله :
[ ص: 184 ] (
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) [إبراهيم : 1] وقوله : (
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات : 56] والكلام فيه معلوم .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول لما كان معنى الآية أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها ، وليجعلها زينة لكم فلم ترك هذه العبارة ؟
وجوابه أنه تعالى لو ذكر هذا الكلام بهذه العبارة لصار المعنى أن التزين بها أحد الأمور المعتبرة في المقصود ، وذلك غير جائز ; لأن التزين بالشيء يورث العجب والتيه والتكبر ، وهذه أخلاق مذمومة والله تعالى نهى عنها وزجر عنها فكيف يقول : إني خلقت هذه الحيوانات لتحصيل هذه المعاني بل قال : خلقها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ، ولكنه غير مقصود بالذات ، فهذا هو الفائدة في اختيار هذه العبارة .
أو اعلم أنه تعالى لما ذكر أولا أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعا ضروريا ، وثانيا أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعا غير ضروري بقي القسم الثالث من الحيوانات وهي الأشياء التي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب ، فذكرها على سبيل الإجمال فقال : (
ويخلق ما لا تعلمون ) وذلك لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ، ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبة المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر ، فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية ، وروى
عطاء ومقاتل والضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : إن على يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع ، والبحار السبعة يدخل فيه
جبريل عليه السلام كل سحر ، ويغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور ، وفي
الكعبة أيضا سبعون ألفا ، ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة .