النعمة الثالثة : قوله : (
وسبلا لعلكم تهتدون ) وهي أيضا معطوفة على قوله : (
وألقى في الأرض رواسي ) والتقدير : وألقى في الأرض سبلا ومعناه : أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ، ونظيره قوله تعالى في آية أخرى : (
وسلك لكم فيها سبلا ) [ طه : 53 ] وقوله : (
لعلكم تهتدون ) أي : لكي تهتدوا .
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلا معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال : (
وعلامات ) وهي أيضا معطوفة على قوله : (
في الأرض رواسي ) والتقدير :
وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهارا وسبلا وألقى فيها علامات ، والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدى ، وهذه العلامات هي الجبال والرياح ، ورأيت جماعة يشمون التراب ، وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق . قال
الأخفش : تم الكلام عند قوله : (
وعلامات ) وقوله : (
وبالنجم هم يهتدون ) كلام منفصل عن الأول ، والمراد بالنجم الجنس كقولك : كثر الدرهم في
[ ص: 10 ] أيدي الناس . وعن
السدي : هو الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، وقرأ
الحسن : ( وبالنجم ) بضمتين وبضمة فسكون ، وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف . وقيل : حذف الواو من النجم تخفيفا .
فإن قيل : قوله : (
أن تميد بكم ) خطاب للحاضرين وقوله : (
وبالنجم هم يهتدون ) خطاب للغائبين ، فما السبب فيه ؟ .
قلنا : إن
قريشا كانت تكثر أسفارها لطلب المال ، ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من
الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم ، فقوله : (
وبالنجم هم يهتدون ) إشارة إلى
قريش للسبب الذي ذكرناه . والله أعلم .
واختلف المفسرون : فمنهم من قال : قوله : (
وبالنجم هم يهتدون ) مختص بالبحر ، لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم ، ومنهم من قال : بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى ; لأنه أعم في كونه نعمة ، ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معا ، ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلا على أن
المسافر إذا عميت عليه القبلة ، فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض ، وهي الجبال والرياح ، وذلك صحيح ; لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة .
واعلم أن
اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون ، فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة ، فإن تبين الخطأ وجب الإعادة ، لأنه كان مقصرا فيما وجب عليه ، وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان :
الطريق الأول : أن يكون مخيرا في الصلاة إلى أي جهة شاء ; لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير .
والطريق الثاني : أن يصلي إلى جميع الجهات ، فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة ، وهذا كما يقوله الفقهاء : فيمن
نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه ، ومنهم من يقول : الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط ; لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجبا وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة ، والله أعلم .