(
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )
قوله تعالى : (
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهل والضلال ، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم ، وإنزال العقوبات بهم ، وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن ، فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا ، والأجر في الآخرة من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله ، وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة
صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير موليين
لقريش ، فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، أما
صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم ، فافتدى منهم بماله ، فلما رآه
أبو بكر قال : ربح البيع يا
صهيب ، وقال
عمر : نعم الرجل
صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم يريد : لو لم يخلق الله النار لأطاعه ، فكيف ظنك به وقد خلقها ؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد
أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام ، فتركوا عذابهم ، ثم هاجروا فنزلت هذه الآية ، وبين الله تعالى بهذه الآية
عظم محل الهجرة ومحل المهاجرين ، فالوجه فيه ظاهر ؛ لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن بنصرة
الأنصار قويت شوكتهم ، ودل تعالى بقوله : (
والذين هاجروا في الله ) أن
الهجرة إذا لم تكن لله لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى
[ ص: 29 ] بلد ، وقوله : (
من بعد ما ظلموا ) معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار ، لأنهم كانوا يعذبونهم .
ثم قال : (
لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) وفيه وجوه :
الأول : أن قوله : (
حسنة ) صفة للمصدر من قوله : (
لنبوئنهم في الدنيا ) والتقدير : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، وفي قراءة
علي عليه السلام : (لنبوئنهم إبواءة حسنة ) .
الثاني : لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على
أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب ، وعن
عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من
المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر .
والقول الثالث : لنبوئنهم مباءة حسنة وهي
المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم ، وهذا قول
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وقتادة ، والتقدير : لنبوئنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة يعني :
المدينة .
ثم قال تعالى : (
ولأجر الآخرة أكبر ) وأعظم وأشرف ; (
لو كانوا يعلمون ) والضمير إلى من يعود ؟ فيه قولان :
الأول : أنه عائد إلى الكفار ، أي : لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم .
والثاني : أنه راجع إلى
المهاجرين ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم .
ثم قال : (
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) وفي محل : (
الذين ) وجوه :
الأول : أنه بدل من قوله : (
والذين هاجروا ) .
والثاني : أن يكون التقدير : هم الذين صبروا .
والثالث : أن يكون التقدير : أعني : الذين صبروا ، وكلا الوجه ين مدح ، والمعنى : أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، وبالجملة فقد ذكر فيه
الصبر والتوكل . أما الصبر فللسعي في قهر النفس ، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق ، فالأول : هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى .
والثاني : آخر هذا الطريق ونهايته ، والله أعلم .