ثم قال تعالى : (
ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) ليتوالدوا ، وفي تفسير هذا الأجل قولان :
القول الأول : وهو قول
عطاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه يريد أجل القيامة .
والقول الثاني : أن المراد منتهى العمر .
وجه القول الأول : أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة .
ووجه القول الثاني : أن
المشركين يؤاخذهم بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا .
النوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم ، قوله : (
ويجعلون لله ما يكرهون ) .
واعلم أن المراد من قوله (
ويجعلون ) أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ، ومعنى قوله : (
ويجعلون ) يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له كقوله : جعلت زيدا على الناس أي : حكمت بهذا الحكم ، وذكرنا معنى الجعل عند قوله : (
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ) [ المائدة : 103 ] .
ثم قال تعالى : (
وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) قال
الفراء والزجاج : موضع " أن " نصب لأن قوله : (
أن لهم الحسنى ) بدل من الكذب ، وتقدير الكلام : وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى .
وفي تفسير " الحسنى " ههنا قولان .
الأول : المراد منه البنون ، يعني : أنهم قالوا : لله البنات ولنا البنون .
والثاني : أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى ، يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول ، وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن .
الثالث : أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى .
فإن قيل : كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة ؟
قلنا : كلهم ما كانوا منكرين للقيامة ، فقد قيل : إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة ، ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون : إن ذلك الميت إذا
[ ص: 50 ] حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وأيضا فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا : إن كان
محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه ، ومن الناس من قال : الأولى أن يحمل (
الحسنى ) على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده : (
لا جرم أن لهم النار ) فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار ، فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة . قال
الزجاج : " لا " رد لقولهم ، والمعنى ليس الأمر كما وصفوا ، " جرم " فعلهم أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ " أن " في محل النصب بوقوع الكسب عليه . وقال
قطرب " أن " في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النار . وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت . وقوله (
وأنهم مفرطون ) قرأ
نافع وقتيبة عن
الكسائي " مفرطون " بكسر الراء ، والباقون " مفرطون " بفتح الراء . أما قراءة
نافع فقال
الفراء : المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب ، وقيل : أفرطوا في
الافتراء على الله تعالى ، وقال
أبو علي الفارسي : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرط ، مثل أجرب أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنهم ذوو فرط إلى النار ، كأنهم قد أرسلوا من يهيئ لهم مواضع فيها . وأما قراءة قوله : " مفرطون " بفتح الراء ففيه قولان :
القول الأول : المعنى : أنهم متركون في النار .
قال
الكسائي : يقال ما أفرطت من القوم أحدا ، أي : ما تركت . وقال
الفراء : تقول العرب : أفرطت منهم ناسا ، أي : خلفتهم وأنسيتهم .
والقول الثاني : (
مفرطون ) أي : معجلون . قال
الواحدي رحمه الله : وهو الاختيار ، ووجهه ما قال
أبو زيد وغيره : فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا ، إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان ، وأفرط القوم الفارط وفرطوه إذا قدموه ، فمعنى قوله : (
مفرطون ) على هذا التقدير كأنهم قدموا إلى النار ، فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم ، ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي
قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ، فقال : (
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم ) وهذا يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم . قالت
المعتزلة : الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجوه .
الأول : أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى ، فلا فائدة في التزيين .
والثاني : أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه .
والثالث : أن التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل ، وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضروريا ، فلم يكن التزيين داعيا .
والرابع : أن على قولهم : الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليا لهم من الداعي إليه .
والخامس : أنه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان ، ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا .
وجوابه : إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل . وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب .
ثم قال تعالى : (
فهو وليهم اليوم ) وفيه احتمالان :
الأول : أن المراد منه كفار
مكة وبقوله : (
فهو وليهم اليوم ) أي : الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك ، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار
مكة .
الثاني : أنه أراد باليوم يوم القيامة ، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم ،
[ ص: 51 ] والمقصود من قوله : (
فهو وليهم اليوم ) هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر ، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم ، ورأوا أنه لا مخلص له منه ، كما لا مخلص لهم منه ، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم : هذا وليكم اليوم على وجه السخرية .